يعتبر مسجد شنقيط أقدم مسجد معروف في موريتانيا إذ بني قبل أكثر من 700 سنة، ومن خلاله أعطت دورة الزمن إشارة انطلاق الحركة العلمية الشنقيطية في ربوع الصحراء وغرب إفريقيا .
لا يبتعد هذا المسجد في ثنايا التاريخ فحسب، بل في الجغرافيا أيضاً، فالوصول إليه يتطلب السفر من العاصمة نواكشوط نحو540 كيلومتراً إلى الشمال الشرقي وعبر مسالك وعرة حيث موقع مدينة ;شنقيط; التاريخية التي اتخذ الموريتانيون منها لقبهم الشهير الشناقطة . وأنت قادم من الشرق باتجاه المدينة القديمة تتراءى لك منارة مسجد شنقيط من بعد، وكانت المنارة تشاهد من كل الجوانب قبل أن يكثر البنيان وتعلو قامته في الجوانب الأخرى .
لكن المنارة التي ربما خلتها لأول مرة ملتصقة بالمسجد أو بنيت فوق سطحه منفصلة تماماً عنه، حيث تدخل من باب قصير أقرب للنافذة يؤدي إلى السلم الصاعد وهناك في المنارة نوافذ صغيرة (تشبه مشكاة مفتوحة) تساعدك على تمييز عتبات السلالم، أما من الخارج فلا تشاهد إلا تساطر الحجارة الشبيهة باللبن وكأن ناحتها قد أمضى وقتاً طويلاً وبذل جهداً كبيراً لتكون على الهيئة ذاتها، ولا تحتاج هذه الحجارة بحكم اتقان البناء وإسناد بعض الحجارة إلي بعضها وتراصها إلى طين أو أسمنت وإنما تعانقت حتى غدت بنياناً مرصوصاً في منارة لا نعلم كيف تسلق بناتها إلى قامتها من الخارج وكيف تمكنوا من الصعود درجة فوق درجة وإن كانوا يقولون إن مصاعد كان يقف عليها البناؤون أعدت من سيقان النخل كانت تمكن من ذلك، أما من الداخل فتؤدي بك السلالم إلى سطح علوي يجلس عليه المؤذن لمراقبة غروب الشمس ودخول وقت المغرب، أما توقيت صلاتي الظهر والعصر فقد نصبت له صخرتان متى وصلهما الظل أذن لأحداهما .
أرضية من الحصى
تفوح رائحة العبق من باحة المسجد وقاعته التي يفترش المصلون فيها الحصى، حيث تحاصر الكثبان مدينة شنقيط وتكثر الرمال في منازلها وتعتقد جماعة المسجد أن الصلاة على الأرض أفضل من الصلاة على الفراش، ولهذا بقيت أرضية المسجد من دون فراش منذ بنائه وإلى اليوم، كما تم رفض تجديد بناء المسجد بمواد حديثة ومخطط جديد وذلك حفاظاً على الشكل المعماري للمسجد نظراً لقيمته التراثية وأهميته التاريخية، والارتباط الروحي لسكان المدينة بمسجدهم العتيق الذي كان أجدادهم وعلماؤهم وشيوخهم يصلون فيه قبل مئات السنين وهو على هذه الهيئة . وباستثناء الطلاء الأبيض الذي طلي به المسجد أو رفع سقف المسجد قليلاً، فإن جماعة المسجد لم تقبل أي تغيير لهيئة المسجد، وهي بذلك تحافظ عليه كما كان تقريباً عندما بني لأول مرة .
وسقف المسجد خشبي مصنوع من شجر تيشط (الهليلج) وسيقان النخل، ويرتفع هذا السقف بفعل اثني عشر عموداً سميكة تصطف في صفين، وتوجد خمس فوهات في السقف صممت بطريقة مائلة بحيث تنقل فقط الضوء وتسد في مواسم المطر بالحجارة . ويتم الدخول إلى قاعة الصلاة بالمسجد من ستة أبواب مقوسة من الأعلى على شكل قبة عرض الواحد منها متران، ولا يوجد في هذه القاعة الكبيرة نوافذ لكنها تتميز بقوس موجود في جهة الشرق يحدد اتجاه القبلة ويصلي الإمام في بهوه .
وفي أيام الجمعة حين تضيق قاعة المسجد بالمصلين تؤويهم باحته، ويمكن أن تتسع قاعة الصلاة وباحة المسجد معاً لألف شخص فقط، وتوجد بباحة المسجد ساحتان مستقلتان لصلاة النساء قريباً من البابين الوحيدين المؤديين إلى داخل المسجد .
قيمة تاريخية وعلمية
ويستمد هذا المسجد أهميته من قيمته التاريخية والدعوية والعلمية، فقد تم بناؤه سنة 660 هجرية على يد جماعة العلويين الأوائل الذين دخلوا موريتانيا وأسسوا مدينة;شنقيط;، قبل أن تتحول هذه المدينة إلى مركز إشعاع حضاري في المنطقة، حيث أنجبت عصارة الحضارة الشنقيطية وفطاحل علمائها ومجاهديها ودعاتها وشعرائها، وتحولت إلى واحدة من أهم مدن الصحراء لعدة قرون .
ويستمد المسجد أهميته أيضاً من وجوده بين مكتبات شنقيط التاريخية التي تضم آلاف المخطوطات النادرة والكتب القيمة الزاخرة بمختلف الفنون، كما أن المسجد يقع في منطقة غنية بالآثار التي تعتبر شواهد على مراحل تطور الحياة البشرية في المنطقة .
وكان مسجد شنقيط شاهداً على تأسيس الحركة العلمية والدعوية الشنقيطية، ومن على منبره برز أئمة كبار، وفي جوانبه انبثقت أولى المحاظر العلمية في البلاد، وهي المحاظر التي كانت عنواناً للتميز والنبوغ في العلوم الشرعية والعربية .
مر بمسجد شنقيط عشرات العلماء الأفذاذ عبر التاريخ، وفي قاعته صلى آلاف الموريتانيين تبركاً بهذا المسجد الذي بني على يد المؤسسين الأوائل للدعوة في هذه البلاد، كما أصبح المسجد وجهة للباحثين والمؤرخين، وقبلة للسياح الذين يأتون لأخذ صورة عن الفن المعماري في منطقة الصحراء .
وقد صنف مسجد شنقيط من طرف المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم;اليونسكو; كتراث بشري عالمي .
وتحرص أغلب الشخصيات الثقافية العربية والأجنبية التي تزور موريتانيا على تحمل مشاق السفر وصعوبة المناخ لزيارة هذا المسجد نظراً لدوره التاريخي في الحركة العلمية التي عرفتها البلاد، كما يحرص رؤساء موريتانيا على زيارة مسجد شنقيط والصلاة فيه . . في المكان نفسه الذي وصلت فيه طلائع الفاتحين، ومنه انطلقت قوافل الدعوة والجهاد نحو العديد من المناطق جنوباً وشمالاً . . المكان نفسه الذي صلى فيه رجال لم تأخذهم في الله لومة لائم، فسخروا حياتهم كلها لنشر الدين والتعريف به، وبث المعرفة بين الناس.
المئذنة الرمز
بنيت منارة مسجد شنقيط من حجارة الجبل وعلى فترتين، إذ تم بناء قاعدتها أولاً بالتزامن مع بناء المسجد، وبعد مرور 200 سنة تم بناء الجزء العلوي من المنارة لتأخذ صورتها النهائية الحالية .
وقد أصبحت مئذنة مسجد شنقيط رمزاً لموريتانيا وللحركة العلمية الشنقيطية، تتصدر صورتها العديد من الشعارات الرسمية والجمعوية في البلاد، كما تعلق داخل البيوت .
وينظر الموريتانيون إلى هذه المنارة على أنها جزء مهم من هويتهم، ليس لقيمتها المعمارية إذ تمتاز بناية المسجد والمنارة بالبساطة، بل لقيمتها الرمزية والمعنوية والتاريخية، ولارتباطها بالمؤسسين .
وقد أثرت هذه المنارة في الحركة الثقافية في البلاد، بل إن تأثيرها آخذ في التصاعد فترة بعد أخرى . . وقد عرفت موريتانيا باسم;بلاد المنارة والرباط; . حيث منارة مسجد شنقيط رمز الإشعاع العلمي، وحيث الرباط الذي أقامته ؛حركة المرابطين.
وفي الشعر الموريتاني الحديث يطغى ذكر المنارة كمفردة فخمة لغوياً، ذات حمولة حافلة بالمعاني والدلالات .
كذلك حجزت منارة مسجد شنقيط مكانتها الفريدة داخل عوالم الحركة التشكيلية الموريتانية، إذ تكاد تصبح ثابتة في اللوحة التشكيلة الموريتانية المعاصرة، وهي تستخدم من طرف رواد الفن التشكيلي، وبمختلف مدارسهم، كرمز متعدد التعبيرات وثري بالإيحاءات .
ويرتبط مسجد شنقيط في ذاكرة ساكني المنطقة بالعديد من الحكايات والمرويات المستندة إلى أحداث ملأى بالدلالات والعبر، وتدخل في الموروث العلمي من ناحية ومن ناحية أخرى تدخل في الموروث الشعبي لأهل مدينة;شنقيط; التي كانت في إحدى الفترات تعد سابع مدينة مقدسة في الإسلام .
المختار السالم
نقلا عن صحيفة الخليج
تاريخ النشر: 02/11/2012