لم يعرف حقل الموسيقى الموريتانية بعد الكتابة العلمية الرصينة، ولا تزال حتى الآن هذه الموسيقى غير مكتوبة كتابة موسيقية حقيقية، كل ماهو مسجل عنها من معلومات هو حصيلة الرواية الشفوية المتوارثة المحكاة في الغالب على أنغام آلة التيدنيت المرنة والذكية في آن معا، يعززها ويصاحبها "آزاي" آردين والصفة الشاملة التي يمكن ان تطلق عليها هي موسيقى اهل الساحل والصحراء .
الروافد:
تشرب الموسيقى الموريتانية من معين الكثير من الثقافات ولذلك كانت آلاتها ونغماتها وإيقاعها عبارة عن خليط من الموسيقى الإفريقية المسلمة الصادرة من نقاط تلاقي ثقافة المشرق المسلم بالحضارة الأندلسية ليرتكز ذلك في تأسيس الدولة االشاملة لجميع أعراق منطقة غرب إفريقيا المعروفة بدولة المرابطين في النصف الأول من ق5هـ الحادي عشر الميلادي، ثم انضاف إليها ما انضاف من الهجرات المعقلية في نهاية القرن السادس عشر الميلادي.
ويتمتع الشعب الموريتاني بتنوع كبير في الأنشطة الموسيقية تنوعا يوازي تنوع البلد الأتني والاجتماعي، فإذا كانت المجموعات العرقية الأربع الرئيسية المكونة للشعب الموريتاني والمرتبة حسب الأهمية فيما يطلق عليه: البيظان، التكرور، السراغلة، والوولف ، لكل منها ثقافته الخاصة، فإنه يتعين على الباحث أن يميز ضمن هذه المجموعات نفسها ذات التراتبية العالية – بين مختلف المكونات الفرعية لكل مجموعة، وخاصة الطبقات المغلقة داخلها، والتي لكل منها إنتاجاتها الموسيقية الخاصة والملائمة لمهنها الاجتماعية مثل غناء الفلاحين، والرعاة والصيادين وأصحاب المهن التقليدية المتوارثة. ورغم وحدة العقيدة والامتزاج العرقي بين كل مجموعة، وبينها مع المجموعات الأخرى فإن الآلات الموسيقية المستعملة من طرف كل طبقة تشكل آثارا مادية للانشغالات الداخلية لكل طبقة على حدة. إن التداخلات الثقافية بين مكونات المجتمع الموريتاني تبرز أساسا في الموسيقى حيث نجد أن هذه المجموعات العرقية الأربع كلها تتوفر على طبقة من الموسيقيين المحترفين ويسمون عند البيظان: إيكاون وعند التكارير ب "كولو" وعند الولف "كولو" وعند السراقله ب "كزر".
وسنلاحظ التطابق شبه التام بين وظائف هذه الطبقة لدى المجموعات الأربع إنها تتجاوز مجرد وظيفة الموسيقى إلى ما يمكن تسميته بالذاكرة الجماعية للمجموعات التي يرتبطون بها، إنهم بالإضافة إلى ذلك يقومون بوظيفة الوسيط أو سفير المهام الدقيقة هذا بالإضافة إلى الارتباط الكامل بالشخصيات النبيلة أو الأمراء إلى درجة أن البطل أو النبيل يلبي كل طلبات الموسيقى مهما كانت، والعكس صحيح فالموسيقى ما هو إلا نفس من أنفاس الأمير، ومن ذلك الحكاية الشعبية التي تروي: (أن موسيقيا أراد الزواج من إمرأة أحبها فأجابته بشرط وحيد وهو أن يملأ لها قدحا من شحم بطن الأمير الذي تيبع له، فتوجه إيكيو إلى أميره وأطربه كثيرا بآلته فقال له الأمير ماذا تريد فأجاب أريد ملئ قدح من شحمك لأقدمه مهرا لزوجتي فقال له خذ تيدينيتك ونادي الطبيب ينزع لك الشحم الذي تريد ولكن غني لي اللازمة كذا من المقام كذا وجاء الطبيب ونزع الأمير اللباس عن بطنه وبدأ إيكو يعزف على أوتار آلته والمرأة التي يريد الزواج منها تنظر إلى المشهد فلما أيقنت أن الأمير راض لتلبية طلب إيكيو هبت مزغردة رافضة للعملية وتزوجت منه) .
إن موسيقيي المجموعات الموريتانية يشتركون أيضا في امتلاك نفس الآلة الموسيقية المؤلفة من عود صغير له ثلاثة أو أربعة أوتار مثبت على صندوق محفور من قطعة من الخشب مغطى بجلد شاة غير مدبوغ. تلك هي الآلة الأساسية للموسيقى والمعروفة عند البيظان بالتيدنيت، وعند التكارير بالهودو (عود) وعند الطوارق تيهردنت وعند الولف بخلم...
أما تفاصيل المقامات الموسيقية والتقنيات النغمية فتختلف من مجموعة إلى أخرى، كما أن المطرب السرقلاوي يتميز عن غيره بكونه نسابة مثالي بل مؤرخ متميز عكس ما هو واقع لدى المطرب البيظاني وبقية المطربين .
إن المتوفر لدينا من الدراسات في هذا المجال مركز على موسيقى البيظان وبالأخص الموسيقى العالمة منها أي موسيقى المطربين التي هي أكثر حظا من الصناعة.
يبقى نوع آخر من الموسيقى الذي سميناه الموسيقى الشعبية الذي تدخل فيه الأفراح الدينية والاجتماعية وأغاني الطبقات المهنية.