إذا كان الكلام على الكلام صعباً فكيف بالكلام على الرسم؟ سؤال وارد أكثر حين نصطحب قلمنا وأوراقنا ومصورتنا لنعطي صورة عن الصورة، ولنفتح باب مغارة فناني الصحراء، وندلف مسرعين في أدغال الحركة التشكيلية الموريتانية، نطارد هؤلاء الفنانين التشكيليين بين ألوانهم وفرشاتهم ونحاول الدخول في المساحة الفاصلة بين كتابة الشعر بالألوان، وكتابة الألوان بالشعر .
يكافح التشكيليون الموريتانيون بألوانهم ومطارقهم وريشهم، لحجز مكانة في ساحة ثقافية يسيطر عليها لون واحد (الشعر)، فموخيس يعزو أسباب عزوف الموريتانيين عن الرسم إلى اعتباره فناً غير أصيل في الثقافة الموريتانية، ولكون الشعر وحده محط اهتمام الجمهور الموريتاني قديما وحديثا، وخالد مولاي إدريس يشكو من عنصرية ثقافية تحارب الفن التشكيلي، وبون ولد الدف يعتبر الشعر دكتاتورا متسلطا على الذائقة الموريتانية، وجدار فصل فولاذي يحفر عميقا في المخيلة الموريتانية ضد الرسم، وولد أحظانا يعتبر إبداعية الفن التشكيلي الموريتاني لم تشفع له إلا في تقبل الآخر غير الموريتاني له .
عبر قراءة أولية، أو نظرة عابرة على الأصح، على لوحات الفنانين التشكيليين، تتضح ملامح الفن التشكيلي الموريتاني، عبر لوحات تتعانق فيها المآذن الطويلة إلى جانب بيوت صغيرة، في ترميز للفارق الكبير بين النمو الروحي والنمو التنموي، ولوحات ترسم وجوهاً شاخصة العيون ومزدوجة الملامح والتعابير والايحاءات التي تعبر غالبا عن زواج قسري بين التعاسة والأمل، وتطغى بقوة في هذه اللوحات حيرة الإنسان الموريتاني وخوفه وتردده في دخول المستقبل، وأحيانا جرأته وقوة شكيمته، فيما تحضر بقوة البيئة الموريتانية من جمال وأغنام، ومن خيام، وأدوات شاي، وأدوات منزلية، وملاحف نسائية، ومناظر طبيعية، وفي كل هذا تطفو سفينة البؤس حاملة الحرمان وأدوات الضياع الاجتماعي لمجتمع تولت الألوان تسريبات نفسيته المعقدة، بقدر ما أعطت عنه انطباعا تشكيليا مغايرا في أحيان أخرى .
نساء ورجال بالألوان . . في لوحة لكزانة للفنانة مكفولة تغيب الوجوه كليا لتحضر بقوة من خلال دلالة لونية، فيما يشكل البعر والعيدان (أدوات تنجيم محلية) قراءة لغيب يستعصي على الاستحضار، وتمثل الخرقة أو الوردة الحمراء على الحصير، والخيمة من وراء المشهد في اللوحة إحالات واضحة الدلالة، بينما تجلس المرأتان خارج الخيمة وخارج الحصير على الرمل، وأمامهما أدوات التنجيم فيما تحدقان في قادم لا يأتي (الأفق) .
في لوحة أخرى لمخيس تتحول ضفائر المرأة إلى سلاسل تحلق في الهواء المتولد من جراء حركة الجسم في رقصة المديح، وللطبل ولمجموعة الراقصين، والموسيقا، والنوافذ السوداء للبيت الذي يظهر من بعيد، والفجوة في الأعلى التي تغطي أملا بأن هناك قمرا ما . . لهذا إسقاط عميق في الذاكرة الموريتانية التراثية .
وفي لوحة الخليقة للرسام محمد ولد أحظانا، وهو مفكر بارز حاصل على جائزة الدولة التقديرية، نرى نواة البشر (الرجل، الأم، الطفل) وهم يسيرون حاملين رؤوسهم المقطوعة نحو تيههم القدري . . لوحة سريالية عرضت في باريس ونالت إعجاب الجمهور .
ملامح
ليس من السهل أن نبرز ملامح محددة للفن التشكيلي الموريتاني بالمعنى المدرسي والأكاديمي، وذلك لعدة اعتبارات موضوعية، منها ما هو عائد إلى الخلفية التاريخية للحركة الفنية التشكيلية الموريتانية، ومنها ما هو مترتب على عدم تأسيس معاهد متخصصة في تعليم الفن التشكيلي في موريتانيا حتى الآن، ومن بينها ندرة المهتمين بالفن التشكيلي بين الطلاب الموريتانيين الذين درسوا خارج البلد . وتعني هذه الاعتبارات مجتمعة، أن المنابع والدعائم الطبيعية والموضوعية لنشأة حركة فنية مكينة، قائمة على الأسس الأكاديمية المعروفة، لم تتح لهذا الفن في موريتانيا .
ومن الأمثلة العملية على هذا الاستنتاج:
عامل نفور تاريخي من تصوير الكائنات الحية المشخصة، وتركيز التجربة الجمالية في الزخرفة النباتية، والأشكال المجردة، ما حال دون التأثر المباشر بالمدارس التشكيلية، وتبني الحركات الفنية السائدة في وقت مبكر من نشأة الدولة الحديثة .
عامل انعدام السطوح الثابتة، والأرضيات التي يمكن أن يستخدمها ذو الميول التشكيلية، وذلك نتيجة البداوة والارتحال . فرغم أن موريتانيا عرفت الكتابة والتعلم لدى البدو، وعرفت فنون الموسيقا والرقص إلا أنها لم تعرف الفن التشكيلي . فهو إذاً من الفنون المضمرة في غيرها من الفنون نتيجة بيئة الترحال، وتكاثر عوامل المحو والحت في الصحراء .
عامل انعدام معهد للفنون التشكيلية . فإلى حد الآن لم يتأسس معهد لتدريس الفنون الجميلة في موريتانيا، وهو ما حال دون وجود طلاب للفن التشكيلي، يدرسونه على أساس حديث .
عدم اهتمام الطلاب الموريتانيين الذين يتلقون دراساته خارج موريتانيا وذلك لاعتبارات من بينها ضعف الاهتمام الاجتماعي بهذا الفن، إلى جانب تدخل العوامل السابقة في صرف الانتباه عن التشكيل .
ومع ذلك فمن الحيف القول إن لا حركة حديثة للفن التشكيلي، أساسها الهواية، ولكنها تطورت لتميل إلى المهنية والاختصاص، حيث نشأت رابطة للفنانين التشكيليين الموريتانيين في أوائل التسعينات من القرن الماضي، وبرز بعض الفنانين الذين يستأنسون ببعض المدارس الفنية التشكيلية . ويمكننا في هذا الصدد أن نعثر على بعض الملامح لنزعات لدى الرسامين الموريتانيين، من بينها:
1- النزعة التراثية، التي تميل إلى استيحاء النماذج النمطية التراثية، كوسائل للتعبير . ويمكن أن نسمي هذه النزعة نزعة تعبيرية تراثية، وهي النزعة الغالبة، وتستخدم الألوان الأساسية، والخطوط الحادة، وتجعل من الآلات والأشياء المزخرفة زخرفة تقليدية موضوعا لها .
2- النزعة الانطباعية الصحراوية، وهي نزعة تتدرج من الانطباع البسيط الذي توحي به الصحراء بصفرتها، وسمائها الفاتحة الزرقة، ومسائها الأرجواني، وشخوصها القليلين ووحشة التفرد بالنسبة للكائنات الحية والنباتات القليلة؛ إلى التعبيرية الوظيفية بالفضاء الصحراوي، واستغلال ألوانه وتوزع الفضاءات وتجاور العناصر على نحو يستأنس بالمدرسة السريالية . وتطغى الفضاءات المفتوحة، والأفق اللانهائي، والتداخل الغامض للألوان المركبة والمولدة والخطوط والأبعاد المبهمة،على فضاء اللوحة .
كما تتميز لوحات بالتجاور غير المعهود للعناصر والظلال، والانحناءات والتموجات المخفية .
3- النزعة التصويرية الواقعية، وتميل هذه النزعة إلى تصوير الملامح والعناصر تصويرا مباشرا، بتفاصيلها . وهي نزعة غالبة على بعض الفنانين، وتستخدم الطبيعة وملامح الأشخاص، وتقاسيم المحيط، والمعالم . . موضوعا لها . وتستخدم هذه اللوحات معطيات الموضوع كما هي .
4- نزعة التجريد: وتستخدم هذه النزعة مدرسة التجريد المعهودة متفاوتة ولكنها على العموم تتجه وجهة النأي عن الواقع بكل تفاصيله، وتميل إلى اختزال الألوان والخطوط والأبعاد، والبحث عن الاختصار والاقتصاد في استخدامها .
هذه على العموم هي الملامح العامة لحركة فنية تشكيلية، نشأت نشأة صعبة، وبدأ روادها في تطبيق رؤاهم رغم عوامل المنع، وضعف الثقافة الفنية القاعدية، مما حرم حركة الفن التشكيلي الموريتاني من الوصول إلى مراتب كان بالإمكان الوصول إليها لو تحققت بعض الشروط .
وفي كل الأحوال فإن المعارض المشتركة التي ينظمها الفنانون الموريتانيون مع زملائهم من العرب والأجانب، ونجاح معارضهم المحلية، وتزايد الإقبال عليها، أكسبت الفنان الموريتاني ثقة كبيرة، لما تلقاه لوحاته من تقبل حسن، ورواج في هذه المعارض؛ خاصة بعد أن أصبح التلقى مؤشراً مهماً من مؤشرات الجودة والتميز في عرف النقد الفني الحديث .
نبدأ بالتشكيلي الأول، الراحل الباشا ولد شيخنا ولد الباشا، الذي تحمل العملة الموريتانية خطه، فقد كان خطاطا ماهرا ومبدعا، وصفته صحيفة فرنسية بأنه يخط وعينه على الأندلس، وكان أول فنان تشكيلي موريتاني يستنطق جماليات الخط العربي باحترافية تصل المستوى العالمي، ومن خلال عمله في صحف داخلية وخارجية وفي لوحات خط، كان الباشا بمثابة الأب الروحي للحركة التشكيلية الموريتانية، في جانب الخط العربي الذي استنطقه ولد الباشا بجماليات بالغة الثراء، ودفع ذلك مجموعة من الشباب للخوض في مغامرة الخط، مشكلين أول نواة للفن التشكيلي الحديث، أبرزهم الخطاط محمد عبد الله، وولد أحمد سالم، وبذلك شاهد الموريتانيون للمرة الأولى روعة وجماليات خطهم العربي .
أما في مجال الرسم، فنبدأ بالرسام الأول المختار ولد البخاري، المعروف بموخيس (53 عاما)، إذ لا يمكن تجاوز هذا الرسام الاستثنائي في الحركة التشكيلية الموريتانية لريادته من جهة ولأعماله الإبداعية من جهة أخرى، فقد قادت الطفولة هذا الفنان مع زمرة قليلة من أترابه في السبعينات إلى خوض مغامرة الألوان، لم يتميز فقط لأن المضمار كان خاليا، وإنما لأن الفنان استوعب بسرعة العالم التشكيلي وتعقيداته بعد تدريبه على يد الرسام الكندي دنيس ريد، ومع نضوج لوحاته وجد تشجيعا معنويا كبيرا من النخبة، وإقبالا سخيا من الزبون الغربي الوافد والساعي لاقتناء الفن الصحراوي، ليصبح موخيس أحد الضيوف الدائمين في معارض الفن التي تقام في العواصم الإفريقية، وأسس سنة 1984 أول ورشة للخط في موريتانيا يديرها موريتاني، ومنها تخرجت أغلبية الخطاطين الموريتانيين، كما أسس اتحادية الفنانين التشكيليين الموريتانيين سنة 1998ويرأسها حاليا، ونالت أعماله الإعجاب في باريس وعدة عواصم أخرى .
موخيس الذي شكّل رافدا لتغذية الكتاب المدرسي الموريتاني بالرسومات واللوحات، وكذلك مؤسسات مدنية وحكومية وهيئات غربية، اعتمدت على إبداعه التشكيلي في رسم لوحات تخصها أو تخص أهدافها، طبع الحركة التشكيلية الموريتانية بطابع خاص، فقد قدم صوراً نمطية وغير نمطية عن المجتمع الموريتاني، وأخرى عن قضايا إقليمية وعالمية معاشة وذلك في قوالب تشكيلية متعددة الاتجاهات والفضاءات .
كما كان موخيس أحد الرواد الذين جربوا الولوج إلى جميع المدارس التشكيلية المعروفة في العالم فقد اتبع في أعماله مدارس تكعيبية وسريالية وواقعية وتجريدية وغيرها .
وهو يرى أن ملامح المدرسة التشكيلية في موريتانيا تتسم بمعالجة الهم الاجتماعي الموريتاني في المقام الأول، وهو هم متعدد نتيجة المشاكل التي يعاني منها المجتمع الموريتاني، وكان للمرأة نصيب الأسد فيها حيث هي ضحية للتفكك الأسري والزواج القسري والسمنة والتسيب المدرسي وغير ذلك، وتأتي هذه الموضوعات التشكيلية مكثفة باللون الأصفر، وتأتي هذه الموضوعات التشكيلية مكثفة باللون الأصفر . . لون الرمال والشمس، وهو أمر طبيعي في بلد تشكل الصحراء ثلثي مساحته، برمالها الصفراء وأشعة شمسها وأوراقها الذاوية نتيجة تتابع دورات الجفاف . وتابع موخيس الفن التشكيلي الموريتاني مرآة عاكسة وصادقة لحياة واهتمامات المجتمع الموريتاني، ومن الطبيعي أن تكون الشحنات التعبيرية التي تحملها لوحات الموريتانيين عن مجتمعهم أغنى وأكثر كثافة من اللوحات التي رسمها فنانون تشكيليون غربيون مشهورون عن المجتمع الموريتاني .
ويأسف موخيس لخروج أغلب الإنتاج التشكيلي من البلاد ويقول كل اللوحات يشتريها أجانب، أو تباع في معارض شخصية ودولية في عواصم غربية، وبالتالي خرجت من البلد وليس هناك إلا صور منها في أفضل الأحوال .
يروي أول رسام للكاريكاتير في موريتانيا عبد الودود الجيلاني الملقب بأبو معتز قصته وقصة انطلاقة الفن التشكيلي في موريتانيا، فيقول إن أفرادا قليلين لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة بدأوا، وبدافع الهواية قبل أربعة عقود من الزمن، يقلدون الرسوم واللوحات في الصحف والمجلات والكتب، قبل أن ينتقلوا إلى مستوى الاستقلالية الفنية ويرسموا لوحاتهم الخاصة المستوحاة من مخيلاتهم، وتميزت المرحلة الأولى بموجة من اللوحات الواقعية التي ترسم مناظر طبيعية وبورتريهات، ومشاهد حياتية معيشة، ثم الانتقال إلى مرحلة اللوحة الاحترافية التي تضم حزمة كبيرة من الترميز والإحالات .
ويتذكر أنه شارك في أول معرض جماعي للفن التشكيلي أقيم في موريتانيا ونظمته وزارة الثقافة وقتها في قاعة المتحف الوطني في نواكشوط سنة ،1979 وسمي معرض الانطلاقة، وضم أربعة فنانين فقط .
بعد معرض الانطلاقة للفنان عبدالودود الجيلاني شهد انتاجه الفني توقفا حتى سنة ،1987 حيث أقام بدار الشباب في نواكشوط معرضه الشخصي الأول والثاني 1989 بالمتحف الوطني، ثم شارك في مهرجان الواسطي في بغداد سنة ،1987 وفي سنة 1990 شارك بمجموعة من لوحاته في اديانال تبازا، كما أقام معرضا فنيا في العاصمة السنغالية دكار سنة ،1988 وشارك في السنة نفسها مع مجموعة من التشكيليين العراقيين في معرض مشترك في نواكشوط .
عن حصيلته يقول الجيلاني إن هناك مئات اللوحات من بينها مائة لوحة ما بين زيتية ومائية، ويتذكر أن وزارة الثقافة الموريتانية تسببت في إتلاف العديد من لوحاته الثمينة عندما قررت الوزارة اختيار تلك اللوحات للمشاركة بها في معرض دولي، لكن مسؤولي الوزارة حزموا اللوحات في خشنة كما يحزم البدوي متاعه وتسبب ذلك في ثني اللوحات وتخرمها . ويقر الجيلاني بأن الفني التشكيلي الموريتاني ينضوي تحت لواء الفن التشكيلي الصحرواي، وتغلب عليه العفوية، ويتضح جليا تأثير البيئة بألوانها وكائناتها، ومشهديتها وفضاءاتها المفتوحة .
كما تمكن التشكيليون الموريتانيون، من وجهة نظره، من التعبير عن أغلب القضايا المطروحة على مجتمعهم، والقضايا الجوهرية للأمة العربية، وهموم الإنسان الحديث . . مع ملاحظة توجهات نحو التجريب والسريالية، والمشهدية الفنية التي تحمل بذور تعقيدات العصر .
ويضيف كمطلع على روائع الفن العالمي الكلاسيكي والحديث، وأنشطة الحركة التشكيلية العالمية بصفة عامة وما ينشره النقاد، أعتقد أن اللوحة الموريتانية لا تخاف المنافسة لو توفرت لها شروط ذلك ولكنني أخاف كثيرا من عدوى الفن التجاري التي بدأت تعصف بالمدرسة التشكيلية الموريتانية في الفترة الأخيرة، فالجميع في موريتانيا بدأ الرسم من أجل الرسم والآن دخل عامل الرسم من أجل المال والشهرة، والمال والشهرة عدوان لدودان للإبداع .
ويتفق أغلب الفنانين التشكيليين الموريتانيين على أن التشكيل الموريتاني لم يعد قاصرا من حيث البعد الإبداعي، لكنه لا يزال في غرفة الولادة من حيث الرعاية والدعاية .
يقول الفنان خالد ولد مولاي إدريس الفن التشكيلي في موريتانيا لا يزال وليدا يحتاج للرعاية والاحتضان، بمعنى أن ممارسيه أو الرائدين في ممارسته لم تتشكل لديهم رؤية مشتركة ثقافية مبنية على إدراك حقيقي لدوره الاجتماعي والثقافي، فعلى المستوى الشخصي للفنان لا تزال هناك عدم ثقة في ما يقدمه للمتلقي العادي والمثقف، ولو أن هذا الأخير ليس مقياسا لإدراك المعنى الفعلي لدور الفن كوسيلة تعبير وتطوير للشعوب والمجتمعات .
ويضيف أما من ناحية بروز أو ظهور مواهب واعدة فمن ما لا شك فيه أن هناك عدة وجوه برزت من الثمانينات والتسعينات من القرن الماضي على المستوى الوطني والإقليمي بشكل لافت وتركت بصمة نور في عتمة جهل الفن ودوره في البلد .
ويرى أن هناك عدة اتجاهات يمكن تصنيفها أساسا حسب الفنان وخلفيته الثقافية والتعليمية: ومنها: المدرسة الواقعية: ومن روادها خالد ولد مولاي إدريس، وأعلي الكوري ولد حنبل، وعباس والمختار، والبخارى .
المدرسة التجريدية أو التحويرية: وينتمي إليها غالبية الفنانين لأنها وبكل بساطة هروب من المقاييس العلمية والدقيقة للرسم الواقعي، والتكعيبية: التي تعتمد في الأساس على المستوى العقلي والثقافي والرؤية الشاملة للفنان في محيطه والعالم ككل . ومن روادها ممدو آن، وسيدي أحمد يحيى، والمدرسة السريالية التي برع فيها الفنان موخيس .
تشكيل أنثوي
يلاحظ في المدرسة التشكيلية الموريتانية نمو لون أنثوي في الفترة الأخيرة من خلال أعمال جيل جديد من الفنانات الشابات اللواتي لفتت أعمالهن أنظار النقاد ووسائل الإعلام من أمثال مكفولة بنت أحمياده، وزينب بنت الشيعة، وبثينة بنت الكتاب .
أدخلت مكفولة بنت أحمياده مواليد 1974 عنصرا جديدا في التشكيل الموريتاني يتمثل في الرسم بالحجارة ومواد البيئة التقليدية الموريتانية، ولقيت أعمالها إقبالا مهما من قبل هواة الفن التشكيلي الغربيين من عاملين في منظمات وهيئات دبلوماسية وسياح .
وترى مكفولة، التي تشكل مع زوجها ثنائيا فنيا، أن الرسم بالحجارة ليس سهلا، ويتطلب احترافية عالية، ولكنه يضفي روحا جديدة على الفن التشكيلي، ويجعل اللوحة أكثر قابلية للإدهاش والتعبير .
وتؤكد أنها تعتمد على المواد الطبيعية، فهي لا تستخدم الألوان الصناعية، وإنما تستغل الألوان الطبيعية في الحجارة الجبلية التي ترسم بها المشاهد المجسمة واللونية، كما تستغل المواد الخام في البيئة الموريتانية لأغراض الرسم والتشكيل والتصنيع، فقد أدهشت زبونة غربية بقلادة صنعتها من بعر الإبل وحولتها بألوان مستخرجة من الصخور والصمغ ومواد طبيعية أخرى عبر عمل تشكيلي إلى عقد حلي نفيس .
مكفولة التي استبدلت الريشة بالمطرقة التي تستخدمها لاستخلاص أجزاء الصخور المشذبة التي ستشكل أجزاء لوحاتها المجسمة في لعبة فنية تعيد الطبيعة إلى الطبيعة تسعى لفن حي من كائنات وليس مجرد ألوان، وتعتبر كل شيء في الطبيعة الموريتانية جزءاً من لوحة لا ينقصها سوى الترتيب، وقد تم تكريمها من قبل وزارة المرأة على أعمالها المتميزة .
وتقول الفن التشكيلي في موريتانيا رغم إبداعيته فلا يزال فنا مجهولا بالنسبة للمجتمع الموريتاني، ولكن ذلك لا ينقص من قيمته الفنية ومن إبداعيته، فعدم معرفة أو اهتمام المجتمع بفن معين لا يلغي أهميته وإبداعيته، وفي موريتانيا فنانون تشكيليون موهوبون حقاً ويستحقون التقدير والعناية .
الفنان بونه ولد الدف، أشهر رسام كاريكاتير في موريتانيا، يقول في عصر لم يعهد فيه الشناقطة إلا علوم الدين من قرآن وحديث وفقه وسيرة، أضف إلى ذلك طبعا اللغة العربية والشعر، وكذلك لا وجود لأي معهد للفنون الجملية موريتانيا، على الرغم من ذلك كانت الموهبة حاضرة في كل زوايا ومنافذ الإبداع التشكيلي بكل أطيافه وجماليته وتنوعه، في التشكيل مثلا كانت هناك التماثيل بنات الأوزار، والدمى المجسمة من القماش والطين والحجارة أحيانا، كما كانت هناك رسوم ونقوش تزين واجهات المباني التاريخية في المدن الموريتانية القديمة، مثل ولاتة، ورسوم في الكهوف والجبال، كما كانت الصناعة التقليدية الموريتانية تحفل بعديد اللوحات التي لا تقل جمالا وتعبيرا عن الأعمال المعاصرة، بل يذهب باحثون في الميدان إلى القول إن جميع أعمال الصناع التقليديين الموريتانيين هي لوحات فنية خالصة .
ويضيف ظهر الفن التشكيلي في شكله المعاصر في موريتانيا بعيد الاستقلال، وكان ينظر إليه من طرف عامة الشعب على أنه جزء مما حمله المستعمر معه .
ورغم هذا فقد وضع المستعمر الرسم والأعمال اليدوية في جميع مناهج التعليم، وقام المركز الثقافي الفرنسي بتنظيم ورشات لتكوين بعض الطلاب والهواة على الأسس المعاصرة للفن التشكيلي، وكانت مديرة المركز الثقافي الفرنسي آنذاك ماري افرانسوا ديلاروزيير رائدة الحركة التشكيلية في موريتانيا بتكوينها للكثير من التشكيليين، لتولد أول لوحة زيتية ومائية موريتانية في مطلع سبعينات القرن الماضي .
ويواصل تعددت مناحي واهتمامات الفنانين التشكيليين الموريتانيين الذين يمكن تأطير أغلبهم في إطار المدرسة الواقعية، إلا أن السريالية بدأت تجذب لها عديد الفنانين الموريتانيين، نتيجة ما تمنحه لذهن المتلقي من حرية في التفسير والتحليل . وهي إلى ذلك بغية كثير من الأجانب الذين يزورون البلاد .
أما المفكر والرسام محمد ولد أحظانا من مواليد 1956 فيقول: الفن التشكيلي الموريتاني المعاصر بدأ بالفعل يضيف نفسه لمكونات الساحة الثقافية في البلد وتتعايش فيه جميع المدارس وتختلط أحيانا في اللوحة الواحدة، على غرار تعايش المدارس في الأدب، والموسيقا في كل بلد في عالم اليوم .
في الفترة الأولى للرسم التشكيلي في موريتانيا، ما بعد الستينيات إلى العقد الحالي، شكل اتصال الفنانين التشكيليين الموريتانيين بتشكيليين غربيين، وأساسا أوروبيين، وافدين نقطة تحول مهمة، فبقدر ما كان التشكيليون الأوروبيون الذين يزرون موريتانيا لإثراء تجربة المشاهدة لديهم والاستلهام من عوالم الصحراء ومجتمعاتها الريفية ونصف المدنية، بقدر ما سمح هذا الاختلاط للتشكيلي الموريتاني بفتح قناة اتصال، مؤثرة فيه فنيا، مع الفن الغربي الحديث ومنافذه التعبيرية .
تجديد
لقد تجاسر جيل جديد من التشكيليين الموريتانيين على اقتحام السريالية، وحتى الفوضى التشكيلية، أو التشكيل الحر إن صح التعبير، ومن أمثال هؤلاء سيدي ولد أحمد يحيى، الذي يرى أن الفرق بين لون وآخر هو الجنون فقط، وأن كلاً من الرسم والذوق مزاج، ويجب ألا يخضع الرسم لأي قيود أو ترتيبات ملامحية مسبقة تقيده في إطار أو قالب ذهني معين .
رسم سيدي ولد أحمد لوحات سريالية أو ما بعد سريالية إن صح التعبير أيضا، كانت لافتة للنظر، من حيث فوضويتها التعبيرية، وخروجها على كل مألوف في لعبة الألوان والمساحات .
الأفرقة
لفن التشكيل الموريتاني فرع عريق إبداعيا يتمثل في ما ينتجه الفنانون التشكيليون الأفارقة، ويحمل نكهة وحضارة الأفرقة، ويتميز بالاستخدام المكثف للألوان الصارخة وترجمته لحياة المجتمع الإفريقي، وفي جانب النحت بالخصوص، أبدع عدة فنانين أفارقة في مجسماتهم الخشبية والطينية التي تعرض للبيع في أسواق نواكشوط وفي المعارض المحلية والدولية .
وتكمن ملاحظة أن الكاريكاتير هو الفن التشكيلي الأكثر شعبية بين صفوف الجمهور الموريتاني نظرا لطبيعة رسالته الساخرة والملامسة للنبض المباشر للجمهور، وقد شق الكاريكاتير طريقه نحو قراء الصحف الجادة والساخرة معا .
صحيفة الخليج العربي
تاريخ النشر: 16/01/2010
المختار السالم