كان السرد الموريتاني وما يزال جزء من منظومة السرود العربية خاصة والأدب العربي بشكل عام إلا أنه أخذ لنفسه وسائله الفنية والأدبية السردية التي جعلته يتميز ويختص بعدة ملامح، وكان بذلك هذا السرد سردا موريتانيا ذا طبيعة خاصة لا تخرجه من ناحية الشكل والمضمون عن مقومات الخطابات السردية العربية، ولا تجعله تابعا لها سالكا خطوات السائرين في دروبها، فما أهم ملامح الخصوصية في السرد الموريتاني الحديث؟
إن السرد الموريتاني الحديث نوع أدبي مزاحم للنص الشعري في موريتانيا، والذي سيطر على ذائقة الموريتانيين فترة طويلة تكاد تكون بداية تاريخها، بداية ظهور الأدب الموريتاني بشكل عام، كما أن السرد الموريتاني سرد متميز عن السرود العربية التي ينتمي إليها، حيث اختار أن يصور البيئة والمجتمع الموريتاني الذي يختلف عن المجتمعات العربية الأخرى، ويسرد التاريخ بطريقة فنية أدبية تختلف عن التأريخ الموضوعي، فكانت خصوصية الأدب الموريتاني، والرواية بخاصة نتيجة لخصوصية المجتمع وثقافته، فالمجتمع لم يتبع للحضارة الراقية الدائبة دأب الغرب، لبقية من مقوماته الثقافية المضادة للآخر، ولم يبق بدويا كل البداوة فسكن المدن وشيد العمارات وأرسل البعثات إلى الخارج للتحصير العلمي والخبراتي، وكان بحق قنطرة بين البدوي والمدني.
بانت ملامح الخصوصية في السرد الموريتاني الحديث حين لبس ثوبا وامتلأ مضمونا، جعله يختلف باختلافهما، أو على الأقل يختص بهما عن السرد العربي الآخر، ولا يمنع هذا من كونه جزء لا يتجزء من المدونة السردية العربية الكبرى ، فكان بذلك السرد الموريتاني مراعيا للشكل المتداول في الكتابة العربية، ومتميزا عنها في المضمون، في مرحلته الأولى مع روايات أحمد ولد عبد القادر، وموسى ولد أبنو ، وفي مرحلته الثانية حاول السرد الموريتاني الحديث أن يتميز في الجانبين (الشكل والمضمون) ويظهر ذلك جليا في رواية محمد ولد تتا، حين مزج في بنية الخطاب المشكل للنص الروائي بين الشكل التراثي والشكل الحداثي، وتميز من ناحيته البنيوية بلغة مختلفة عن لغة الرواية العربية، وكانت لغة أقرب إلى لغة المجتمع العربي العامي، وأكثر أصالة حين يبحث عنها في المعجم، فهي لغة ما تزال حية في أوساط العامة، يستخدمونها في حياتهم اليومية ، وبذلك تكون خصوصية السرد الموريتاني من ناحية اللغة تطويع اللهجة الحسانية ـ التي تم تفصيحها حين سكبت في ثوبها القديم ـ مسوقة بدون تحريفاتها التي علقت بها عبر الزمن، ويكون المضمون الخاص للسرد الموريتاني مبديا ثقافته بكل ألوانها من تقاليد، ومرويات حكائية، وأساطير وخرافات...إلخ، وحتى إبراز تلوينات محلية كانت مخفية من صفحات الثقافة وتكمن في المجتمع الموريتاني ولا توجد لها مثيلات في مجتمع آخر مجتمعة، كما برز في هذا السرد مضمون نقدي للواقع وللحياة التي يعيشها الموريتاني، مدافعا عنه ومبديا الخيارات الموضوعة أمامه، وحاول هذا النقد أن يصب اهتمامه على السياسة، والمجتمع من ناحية موضوع الهوية الموريتانية والفئات المسحوقة، والديمقراطية.
وتظهر في الخطابات السردية الموريتانية عدة تلوينات محلية تختلف أنماط عيشها لذلك اختلف التعبير عنها و بناء مخيال لها ، فهناك الصحراء وسكانها، وهناك المزارع وفلاحوها، وهناك الغابة وأهلها، والسهول ونزالها، والجبال وروادها، وكان لكل شريحة محلية صورة يبنيها لنا السارد من خلال عرض خطابها بمستواه، فكانت هناك عدة مستويات لغوية في الرواية، ميزت الشكل وغذت المضمون.
إذن لقد انفتحت اللغة السردية على المنطوق الاجتماعي والثقافي للمجتمع الموريتاني، بطبقاته وفئاته وتكويناته الاجتماعية المختلفة، فكان المتكلم في الرواية متعددا بتعدد ألسنته ولهجاته ولغاته الاجتماعية، وهي التعددية اللغوية: التي حافظ فيها الروائي مثل ما كان مع بعض الروائيين على بلاغة اللسان العربي، فكانت كل شخصية تتكلم من موقعها الاجتماعي أو المهني، فيأتي المنطوق الروائي معبرا عن حرارة التجربة الاجتماعية في تجليها اللساني وانجازها التلفظي، أي أن ارتباطه بلغة ولسان المتكلم في الرواية لم يخرجه في أغلب الأحوال عن أسلوب اللسان العربي وشروط إبانة الفصحى، فجاءت الرواية الموريتانية متسمة بتعددية في مستويات اللغة، بتعدد المنطوق الاجتماعي للمجتمع الموريتاني، ولكن بما هو عربي فم يكن الميل إلى العامية في أغلب النصوص الروائية الموريتانية إلا في حالات التماهي اللساني والأسلوبي أحيانا بين العامية والفصحى، وهي ظاهرة لسانية لغوية قد لا يدركها إلا من كانت له خبرة لغوية ومعرفة لسانية عميقة بالأنساق اللسانية للهجة الحسانية وطرائق انجازها والتلفظ بها .