إن التراث الثقافي الذي تتميز به مدينة ولاتة العتيقة والمتنوع جعل المدينة تحتل مكانة علمية كبيرة وإن كانت غير معروفة لدى الكثيرين في هذا المجال، هذه المدينة القديمة التي يعود تأسيسها إلى القرن الثاني الهجري على يد يحيى الكامل.
وقد زارها الرحالة ابن بطوطة أثناء رحلته الشهيرة واعتبرها أول عمالة السودان كما تحدث عن كرم وضيافة أهلها وكتب عنها عبد الرحمن السعدي، مؤلف كتاب تاريخ السودان، كما تناولتها كتابات مختلفة لمؤرخين موريتانيين من أبرزهم الدكتور حماه الله ولد السالم.
ورغم الاهتمام بالمدينة وتاريخها والجانب الثقافي، إلا أن الدراسات التي أنجزت حول المدينة لم تتناول الجانب المعماري والتراث الفني لهذا المعلم الأثري، وبالتالي لا تكاد تجد مختصين مهتمين بالمدينة وبهذا الجانب الذي يعتبر ذا أهمية كبيرة، في وقتنا الحاضر.
ورغم ذلك فقد تناول الباحث الدكتور أحمد مولود ولد أيده في أطروحته حول:المدن الوسيطة "الصحراء الكبرى مدن وقصور" الحديث عن هذا الجانب من تراث المدينة العتيقة، واستطاع كشف الغموض عن بعضه وقدم دراسة موضوعية شاملة وذا أهمية كبيرة بامتياز عن فن كاد ينسى ويكون طي النسيان.
وقد عُرفت المدينة بعدة تسميات ( بيرو، إيولاتن، ولاتن، ولاتة )، وهي الحاضرة الصحراوية الوحيدة التي لعبت أهم الأدوار في ازدهار التجارة الصحراوية، وتطور العلاقات الثقافية مع بلدان المشرق العربي (مصر والحجاز) والمغرب العربي، في سياق زمني عرفته المنطقة منذ القرن العاشر الهجري وحتى الثاني عشر، بفعل تطور ركاب الحج التي كان للمدينة دور كبير في تنظيمها خاصة منها "الركب الحجي الولاتي الضخم" الخاص بالمدينة الذي كانت تنتظم فيه تلك القوافل بشكل عام، كما عرفت المدينة وجود فن معماري وزخرفة بديعة لا توجد في غيرها من الحواضر الصحراوية.
ومع اختلاف وتنوع التراث الذي تميزت به مدينة ولاتة التاريخية، سنحاول الحديث عن أهم جوانب هذا التراث، مركزين أساسا على اللوحات الفنية المتنوعة والبديعة التي تميزت بها المدينة الولاتية، والتي كان لها دور أساسي مع غيرها من الزخارف الحائطية الأخرى في جعل المدينة - على غرار المدن الموريتانية الأخرى- "المدينة الأثرية السياحية بامتياز".
فن الزخرفة الولاتية:
عرفت مدينة ولاتة عبر تاريخها الطويل ثورة عمرانية كغيرها من الحواضر الصحراوية وعلى اختلاف الأزمنة التي مرت بها، فقد تميزت بتراث عمراني بديع عرفت من خلاله المدينة وجود أشكال مختلفة ومتنوعة من الإبداع النسائي فيما عرف بالزخرفة الحائطية الولاتية، وهذه الزخرفة تنقسم بشكل عام إلى قسمين خارجية وداخلية، الأولى تكون باللون الأبيض على الأحمر، والداخلية عسكها تماما، واستخدمت في هذه الزخرفة البديعة مواد طبيعية مستخرجة من المدينة نفسها (الطين الأحمر+ الطين الأبيض) بالإضافة إلى مادة الصمغ "العلك"، وطريقة صنع اللوحات الفنية تمر بمراحل مختلفة، مع العلم أن الزخرفة الولاتية هي زخرفة تقوم بها النساء فقط.
ونشير قبل الدخول في تفاصيل إحدى اللوحات الفنية الولاتية إلى أن هذه الزخرفة كانت ولا تزال تستخدم فيها فقطك المواد الطبيعية التي أشرنا إليها حفاظا على المدينة وعلى التراث الذي يحتاج إلى أكثر، وأكثر من كتابات ربما تنسى، نرغب في فعل ملموس لأننا نحتاج إلى هذه التراث الذي ربما يضيع من بين أيدينا ونحن لا ندري، هذه اللوحات الفنية أصبحت للأسف الشديد تستخدم فيها بعض مواد حديثة من أجل تلميعها، والفرق بين اللوحة القديمة والثانية، أن الأولى التي تستخدم فيها مواد طبيعية بعد نزل نزول المطر لا تتأثر بل تبقى كما هي، وأما اللوحات الأخرى فإن الأمطار تؤثر عليها وسرعان ما تزول وتنمحي بمرور الأيام، فهنا يكمن الفرق الذي نرغب في الإسراع إلى تلافيه من أجل الحفاظ على هذا الإبداع الولاتي. لوحة تسمى: طرحة لِمْشِيمْعَاتْ:
تعتبر هذه "الطرحة" - وهي من الزخرفة الخارجية - من أشهر وأجمل اللوحات الفنية التي تصنعها النساء الولاتيات ويسعى كل ولاتي إلى وضعها على منزله، وهي تحتاج إلى عملية ليست من السهولة بمكان كما يتصورها البعض حتى تكون في شكلها النهائي كما هو واضح من خلال (الشكل).
يتم صنع هذه الطرحة على شكل دائرين توضع على جانبي الباب الخارجي للمنزل، بداخلها مربعات صغيرة أغلبها ثلاثة، ثم تأتي أقواس محيطة بها، وهي بطبيعتها عملية معقدة، كما توضع على الباب زخارف مختلفة بأشكال جميلة وبديعة.
بشكل عام هذه إحدى اللوحات الفنية الولاتية والتي لا يمكن إيجادها في غيرها من صويحباتها من المدن التاريخية الموريتانية، فهل ينبغي لنا أن نشكر تراثنا ونزين ما لدينا ونسميه باسم التراث والماضي، أم أنه ينبغي علينا الاهتمام به والإسراع في الحفاظ عليه ما أمكن؟؟
كانت تلكم محاولة للتعريف بجزء بسط من هذا الفن الجميل، والتراث البديع، وأعدكم - إن شاء الله- بكتابة المزيد عن جوانب مختلفة من تراث هذه المدينة الأثرية.
إبراهيم ولد سيد محمد