يمكن تتبع خيوط تراثية للمسرح الموريتاني في الماضي، من خلال عروض فكاهية ورقصات مسرحية مصحوبة بالحوار والغناء، وحتى في مسرح الدمى مثل بنات الأوزار، إلا أن تلك الخيوط لا تشكل نسيجاً كافياً لثوب مسرحي مقبول، وإن مورست كتعبير مسرحي عابر ومرتجل له رسالته في المجتمع القديم، أما المسرح الموريتاني الحديث فيعود عمره إلى نصف قرن، وتحديداً سنة ،1958 مع الإرهاصات الأولى لميلاد دولة الاستقلال، وفي مطلع السبعينات ظهرت أولى الكتابات التي ترصد المسرح .
وثق عدة كتاب موريتانيين من أبرزهم بونه ولد أميده، لتاريخ المسرح في بلاد موريتانيا .
من هذا التوثيق يتضح أن المسرح الموريتاني بدأ فعلياً من خلال سهرات الكيكوطة التي قادها المرحوم همام أفال وكان يحضرها رئيس الجمهورية وأعضاء الحكومة رغم مشاهدها الناقدة أحياناً لشخصيات واقعية .
افتقرت البدايات الأولى للمسرح الموريتاني للكثير من شروط الفن المسرحي وركزت أساساً على النص، لكنها مهدت لميلاد مدارس مسرح الهواة لاحقاً وجيل الرواد كمحمد ولد ممين، والكاتب محمد فال ولد عبدالرحمن، وظل المسرح خلال عقدي الستينات والسبعينات، مسرحاً تحت الطلب غالباً، يعرض مسرحيات واسكتشات توجيهية وتوعوية، وفي الثمانينات شهد المسرح الموريتاني نقلة نوعية مع جيل جديد من المسرحيين أمثال محمد الأمين ولد عداهي، وأحمد ولد محمد الأمين، وعبدالرحمن أحمد سالم، وعبدالباقي ولد محمد . وغيرهم .
ويرى ولد أميده رئيس اتحاد المسرحيين الموريتانيين أن هذا الجيل أدخل المؤثرات الصوتية والمرئية من رسم للحركات، وديكور، وموسيقا، وركز على كتابة النص المسرحي الوطني الذي يحيل إلى رمزيات تنم عن قدرة وكفاءة في النص والتمثيل . وخلال تلك الفترة ولد العديد من الجمعيات المسرحية مثل غرناطة، المرابطون، الرسالة، شنقيط، والأصابع . . إلخ، لتنضوي كلها سنة 1986 في الاتحاد الوطني لمسرح الهواة والذي شكل ملجأ لعشرات المواهب من المسرحيين الشباب .
ويرى ولد أميده: إن ذلك الاتحاد شكل مركز القوة في تاريخ المسرح الموريتاني بأعماله داخل البلاد وخارجها في مهرجانات دولية وإقليمية كمهرجان قرطاج، والمنستير، وأبي رقاق، ومهرجان المسرح الفرانكفوني في أبدجان، وغيرها . وأمام غياب الدعم الرسمي والشعبي، وتعنت الطبقية الاجتماعية الرافضة لاحتراف أبنائها للمسرح كفن، وجد الاتحاد الوطني لمسرح الهواة نفسه أمام نهاية مبكرة .
في عام ،1990 ظهرت فرقة المسرح الشعبي، التي تأسست من ممثلين موهوبين أبرزهم بون ولد الشنوفي ومحمدو الملقب بط مكعور، واعتمدت عنصر الشعبوية والفكاهة المطلوبة جماهيرياً وأهملت الجانب الفني، لكن أعمالها سيطرت لعقد كامل على الواجهة المسرحية . وفي العام ،1996 شهد المسرح الموريتاني منعرجاً مهماً مع دخول مواهب مثقفة إلى خشبة المسرح وكواليسه، يدفعها الإيمان بأبي الفنون ورسالته .
أسس هؤلاء رابطة التواصل التي كان لها دور كبير في إعادة المسرح إلى العمل يأتي على رأسهم بابا ولد ميني والتقي ولد عبدالحي . اللذين استغلا تخصصهما العلمي في فن المسرح لإعادة ترميم الخشبة الموريتانية من خلال دروس وعروض في المسرح استفاد منها عشرات الممثلين الموريتانيين . وفي تلك الآونة تأسس عدد كبير من جمعيات مسرح الهواة التي خطت باتجاه الاحترافية، مثل جمعيات المخضرمين، والنجوم، والتضامن، والمسرح الجديد .
يؤكد ولد أميده أن هذا الجيل لم يكرر غلطة جيل الرواد، الذي لم توثق أعماله المسرحية، بل عمد الجيل الجديد إلى توثيق وأرشفة إنتاجه المسرحي . واعتمدت الحركة المسرحية الجديدة بشكل أساسي على خبرة المخرج باب ولد ميني ودروسه وأعماله، إضافة إلى مواهب الممثلين الجدد الذين سعوا إلى ترسيخ المسرح الجاد، ورغم أنهم وجدوا صعوبة كبيرة في تقبل الجمهور لمسرح يهمل عنصر الضحك من أجل الضحك، فقد تمكنوا في النهاية من فرض مسرحهم الاحترافي على الساحة المسرحية .
ويشير ولد أميده إلى أنه على مستوى الفرق المسرحية، التي تعتمد لغات الأقلية الإفريقية الموريتانية، فإن هناك منجزات لا بأس بها قدمتها فرق مثل تيم تيمول، لينكي ريمو، بينال هيندي .
غياب
يرسم المخرج المسرحي الموريتاني باب ولد ميني، رئيس فرع الهيئة العربية للمسرح في موريتانيا، صورة قاتمة لواقع المسرح الموريتاني، ويقول إن هذا الواقع يتلخص في الغياب التام للدولة عن دعم المسرح، وفقدان البنى التحتية من دور عرض، ومعاهد للدراسة، وصدود الكتاب عن الإبداع للمسرح، وكل ذلك على الرغم من أن الجمهور الموريتاني مصاب بمرض الفرجة .
ويشير ولد ميني إلى أن عدد المخرجين المسرحيين المتخصصين لا يتجاوز أربعة أو خمسة أشخاص أصيبوا جميعاً بالإحباط عند عودتهم من الدراسة في الخارج واكتشافهم حجم الفراغ المسرحي في البلد، أحدهم هاجر إلى أمريكا، واثنين امتهنا أعمالاً أخرى، ولم يبق في الميدان سواي والآن توجد فقط خشبتا مسرح في البلاد، ومجموعة من الممثلين الهواة التي تصارع للبقاء رغم كل المعوقات، إن هناك نواة للمسرح تتمثل في بعض الإنتاج، وممثلين، وإرادة حديدية وتمسك قوي بهذا الفن . . ما عدا ذلك نحن نصارع المستحيل .
وعن المستقبل، يقول ولد ميني نحن نعول على التزام الرئيس المنتخب محمد ولد عبدالعزيز خلال الحملة الانتخابية الماضية بخلق مسرح وطني، كما نعول على الجهود التي يبذلها اتحاد المسرح العربي للنهوض بهذا الفن في جميع الأقطار العربية، ونعول على إرادة هؤلاء الشباب المضحين من أجل قدرهم المسرحي . ونعرف تمام المعرفة استحالة وجود مسرح حقيقي من دون تبني الدولة له باعتباره ضرورة تنموية وثقافية .
أما الممثل محمد ولد الزين، فيعتبر أن المسرح الموريتاني عانى من عقبة الانقطاع بين الأجيال، فكل جيل يبدأ من الصفر، ويشير إلى عدم رغبة أشخاص معينين في وجود المسرح في موريتانيا لاعتبارات سياسية واجتماعية، منوهاً إلى أن المسرح الجاد الذي بدأ مع الجيل الحالي، تجاوز الشعبوية، وعالج القضايا الكبرى وطنياً وقومياً من خلال مسرحيات نهاية دكتاتور، وأشباح وحقائق، والموتى يرقصون، وحمار يتزوج، وأحمد ياسين في شنقيط، وغيرها، واعتمد الفصحى بدل اللهجة الشعبية، واستشرف المستقبل في قراءة دقيقة .
ويقول الربيع ولد إدومو، الذي بدأ حياته المسرحية في فرقة المسرح الجامعي إن المسرح الموريتاني هو مسرح هواة بطبيعة الحال لكن هؤلاء الهواة يظهرون على الخشبة كما لو كانوا يقاتلون بحناجرهم وأصواتهم للدفاع عن هذا الفن الرائع بكل ما فيه من ثورة واستقراء للأحداث وصناعة للفن .
ويضيف ولد إدومو شاركت شخصياً في بطولة عدة مسرحيات من بينها مسرحية انعدام الحدود، ومسرحية رئيسنا الطويل التي عرضت في نواكشوط 2007 وكانت تتحدث بشكل رمزي سريالي عن عبثية المراحل الانتقالية السياسية في موريتانيا والتي تعقب كل انقلاب . . وطبعاً يظهر في كل مرة رئيس ضعيف تحركه تلك القوى الجبارة التي تظهر في المسرحية على شكل أشباح ظلام وتدفعه لأخطاء قاتلة تكون في النهاية دافعاً لانقلاب سياسي جديد في موريتانيا . . وقد تنبأت تلك المسرحية بالواقع الحالي، حيث أن الشبح يفشل دائماً في إقناع الناس العاديين بأنه قد يكون جيداً وإيجابياً في حياتهم وهذا ما يحصل اليوم مع نظام الجنرال عزيز .
وتابع شاركت في عشرات العروض التي تحدث عن الهوية العربية والقضية الفلسطينية والوطنية كمسرحية بيت العنكبوت التي كشفت صراع المثقف العربي بين فرضية الجهاد ونبذ التشدد الديني . . أذكر أن الزميل بونه بطل المسرحية كان يردد وحدها البندقية تصنع الطريق . . تحدد الهدف .
إن المسرحيين الموريتانيين يتحدون الكثير من الضغوط والعوائق الاجتماعية، حيث ينظر المجتمع التقليدي للمسرح على أنه فن ملاهٍ لدي أصدقاء فقدوا خطيباتهم وزوجاتهم حتى وطردوا من منازل عائلاتهم بسبب المسرح . . قصة المسرح في موريتانيا لا تشبه أي موضوع آخر إنها قصة معركة .
أما عبدالرحمن ولد أحمد سالم، فيؤكد أن ملامح المسرح الموريتاني هي نفسها ملامح هموم الأمة التي ينتمي إليها، من قضايا كبيرة كالهم الفلسطيني، ويوجز أبرز اتجاهات المسرح الموريتاني في اتجاهين، الأول تقليدي يتعلق بالمسرح التوجيهي المباشر، وهو الغالب الأعم، بينما هناك توجه لمشهدية مسرحية حديثة تطرح إشكاليات كبيرة في قوالب مسرحية أكثر اقتراباً من تعقيدات العصر . وهذا التوجه الأخير طارئ على المسرح الموريتاني ولا يزال في البدايات الأولى، أن التوجهين يقدمان في قالب متسخ فنياً .
ولا يزال الإنتاج النصي الجاد محدوداً، بحسب رأي الأستاذ الجامعي أحمد حبيب الله، الذي كتب مسرحيتي التبتابة، والزوج المدير العام، ويعيد ذلك إلى إقبال الموريتانيين على الشعر والقصة، وتعقيدات النص المسرحي وأهمية تلازمه بنشاط مسرحي مؤسس، ويشير إلى أن المسرحيات التي كتبت ومن بينها بريق الصمغ العربي واللعبة لمحمد فال ولد عبدالرحمن، وأخيراً رفض، والإمام لمحمد ولد عمر، كانت نصوصاً تعالج المشاكل التي يواجهها المجتمع الموريتاني جراء الهجرة من الريف، والطلاق، ومحو الأمية، والصراع السياسي، إضافة لموضوع الوحدة العربية، وغيرها من نصوص أنتجتها الفرق المسرحية بنفسها .
يباشر اتحاد المسرحيين الموريتانيين في الوقت الراهن الاعتماد على التكوين والتأطير للكفاءات المسرحية الشابة، وقرر تبعا لذلك وضع برنامج تكويني، بدأ السنة الماضية بتنظيم فعاليات الدورة الأولى لأيام نواكشوط المسرحية، وصاحب ذلك برنامج المسرح الجوال وهو سهرات وتظاهرات شملت مختلف مقاطعات نواكشوط، واستهدفت إتاحة الفرصة للعديد من المواهب الشبابية لاختبار قدراتها التمثلية أمام الجمهور .
وتلتها الدورة التكوينية الثانية في مجال التقنيات المسرحية، والتي تناولت تاريخ المسرح، وفن الممثل، وتقنيات إعداد النص المسرحي والتجربة المسرحية في موريتانيا، وتمارين الصوت، ودور الموسيقا والإكسسوار، والتعبير الجسدي، كما تم وضع برنامج تدريب للممثلين والمخرجين المبتدئين على مدار السنة عبر عروض ودروس أسبوعية بمقر اتحاد المسرحيين الموريتانيين .
أول مشهد
تظل مسرحية هكذا رأينا الصبح، بحسب رأي البعض، أول مشهد مسرحي ناضج في موريتانيا، ولهذه المسرحية قصة طريفة فقد عرضت أمام الرئيس ولد الطايع وتنبأت بنهايته رغم أنه استحسنها كثيراً في مقطع من حواراتها يقول الممثل الأول: تباً لهذا الليلي البهيم، يزداد قتامة من حين إلى حين، يرد الممثل الثاني هكذا الليل دائماً، عنيد، مكابر وظالم، ومنذ أن وصلنا إلى هنا وهو لا يريد أن ينتهي . .فيأتي الجواب إنها القضية والأشكال والجواب في آن واحد . . فيرد الممثل الثاني وربما نهايته، في ما استغلت مساحات الصمت بشكل رائع، وكان أداء الحوار قوياً ومؤثراً ويبرز ثراء المفردة العربية وقدرتها اللامحدودة على التعبير .
المختار السالم