لم يظهر المسرح في موريتانيا إلا في أواخر الخمسينيات (1958م) من القرن العشرين، وذلك مع الفرقة " الكيكوطية" برئاسة همام أفال. وقد ظهر في البداية جيل يمكن :" أن يطلق عليه جيل الرواد للحركة المسرحية في موريتانيا، من أمثال:( محمد ولد ممين، والكاتب محمد فال ولد عبد الرحمن، ومحمد ولد مسعود....)، وقد كانت هذه البدايات تعتمد أساسا على تمثيل النص دون مراعاة للحركة، وهو أمر يعزى إلي عدم وجود متخصصين حينها، وعدم إيفاد الدولة الموريتانية لبعض هؤلاء للخارج لتلقي دورات تكوينية، والاستزادة بمعلومات أكثر عن هذا الفن" .
وإذا كان الجيل الأول من المسرحيين الموريتانيين قد اعتمدوا على تشخيص النصوص، دون ترجمتها ميزانسينيا وحركيا، على الرغم من الحركة المسرحية التي كانت منتشرة لدى الفرنسيين في البلاد، إلا أنهم لم يستفيدوا من ذلك بأي حال من الأحوال. بل اكتفوا بقراءة النصوص الدرامية، وتمثيلها لغويا وحواريا، وذلك دون تحويلها إلى عروض ركحية أو سينوغرافية.
لكن الجيل الثاني من المسرحيين الموريتانيين، سيقدمون عروضا مسرحية على أسس ركحية وسينوغرافية، وذلك بترجمة النصوص الدرامية إلى أفعال ومشاهد ولوحات وحركات وانتقالات فوق الخشبة الركحية . وفي هذا الصدد يقول الكاتب والفنان المسرحي بون ولد أميده:" ظهر على مسرح الحياة الثقافية ما اصطلح عليه تسميته "الجيل الثاني" بقيادة محمد الأمين ولد عداهي ، وقد امتازت فترة هذا الجيل باعتماد النصوص المسرحية الوطنية لأول مرة، وتميزت كذلك بتقديم النص المسرحي على أسس علمية، عكس ما كان سائدا في السابق (حركات محسوبة- ديكور- إكسسوار- إضاءة- موسيقي...إلخ).
ومن أبرز الجمعيات والروابط التي كانت ناشطة إبان الفترة الزمنية لذلك الجيل: جمعيات(غرناطة- المرابطون- الرسالة - شنقيط ، وهي إحدى كبريات الجمعيات المسرحية الموريتانية، وأكثرها صيتا وعطاء ، إضافة إلى فرق: الخلاص،والمسرح الطلائعي، والأصابع والمرآة ...إلخ).
وفي منتصف الثمانينيات، شكلت هذه المجموعة ما عرف حينها بـ"الاتحاد الوطني لمسرح الهواة"، وقد كان هذا الاتحاد مركز القوة في تاريخ المسرح الموريتاني بأعماله داخل البلاد ؛ وامتد عطاؤه ليشارك في مهرجانات دولية وإقليمية، كـ(مهرجان قرطاج؛ومهرجان المنستير؛ ومهرجان أبي رقاق ، ومهرجان المسرح الفرانكفوني في أبدجان , ومهرجان " يوم الطالب الليبي"...
لكن هذا الاتحاد ترصدته عدة عوائق، واضعة بذلك نقطة النهاية لمسيرته المسرحية بعد سنوات من العطاء، ليتفكك الاتحاد الوطني لمسرح الهواة، وفتح المجال في سنة 1988 م لظهور فرقة المسرح الشعبي سنة1990 م، والتي نالت تجاوبا منقطعا في ظل غياب أي منافس على الساحة ، وإن كانت هذه الفرقة لم تعر كثيرا الجانب الفني أهمية تذكر، واعتمدت أساسا على الفكاهة والتنكيت و"المباشراتية" في تناول المواضيع، إلا أنه لا يمكن لأي متتبع لتاريخ المسرح الموريتاني أن يتجاهل دورها على مدى عقد من الزمن."
بيد أنه في منتصف التسعينيات (1996م) من القرن العشرين، ستعرف موريتانيا طاقات مسرحية إبداعية واعدة جديدة ستقود المسرح الموريتاني نحو مناحي التأسيس والهواية و التميز والإبداع، فيظهر ما يسمى بالمسرح الاحترافي والمسرح الجاد، وممارسة فن المسرح على أسس الدراسة والعلم، كما ستظهر رابطة التواصل التي ساهمت في ظهور العديد من الجمعيات والفرق المسرحية، مثل: المخضرمين ، والنجوم، والتضامن،والهلال ، والمعرفة ، والتوعية، والمسرح الجديد الذي قاده المخرجان بابا ولد ميني والتقي ولد عبد الحي.
هذا، ومايزال المسرح الموريتاني يعرف عوائق عديدة تواجه مسيرته الإبداعية، كالعوائق الإدارية، والعوائق المادية، والعوائق المالية، والعوائق التنظيمية، والعوائق البشرية، والعوائق الإعلامية، وعوائق التكوين. ومن أهم المشاكل التي تؤثر على المسرح الموريتاني على سبيل التحديد: " عدم وجود أماكن عرض مسرحية لا في نواكشوط ولا في الداخل، حيث إن الأماكن الموجودة للعرض تقتصر على دار الشباب الجديدة والقديمة اللتين تعانيان وضعا يرثى له جراء الإهمال طيلة عقود من الزمن،أضف إلى ذلك، ضيق سعتهما الاستيعابية( 400 مقعد في الأولى و850 مقعد في الثانية)".
ويعني هذا أن المسرح الموريتاني مازال مرتبطا بالعلبة الإيطالية استنباتا واقتباسا وترجمة وإعدادا وتأليفا، ولم يتحرر بعد من الفضاءات المغلقة، وهذا شيء طبيعي إذا كان المسرح الموريتاني لم يتأسس بعد في الحقيقة ماديا ومعنويا وإداريا ، ولم يجد فضاءه الركحي والسينوغرافي بعد، وذلك لكثرة المشاكل والأزمات التي يتخبط فيها من حين لآخر. كما أن المسرح حدث فني وجمالي يرتبط بالمدينة والعمران والاستقرار والمدنية والحضارة أكثر من ارتباطه بالبادية والبداوة والخيمة والصحراء والارتحال وعدم الاستقرار، ومازال المجتمع الموريتاني بدويا ليس إلا. وفي هذا الإطار يقول عبد الكريم برشيد:"فالمسرح – كما نعلم- فن مدني مولدا ونشأة، وذلك لأن المدينة هي بالأساس توحيد للفضاء المكاني والزماني. كما أنها أيضا، إخراج للفرد من فرديته، وإدخاله في إطار الجماعة. فهي تحرره من الانتساب إلى العشيرة ( رابطة الدم) لتعويضه عن ذلك بالانتساب إلى العمران. هذا التساكن – المحمل بتداخل المصالح وتكاملها وتعاصرها- هو الذي يعطي المشروعية لفعل المسرح، كلقاء إنساني وحوار وصراع وأقنعة تفرضها المواضعات الاجتماعية داخل المدينة..."
وهذا ما لا نلاحظه بشكل جلي وواضح في موريطانيا الفتية ، والتي مازالت تفتش عن نفسها ، وتحاول جادة أن تبحث عن كينونتها ، وتثبت وجودها ، وذلك في غمار الصراعات الحزبية ، والاضطرابات السياسية، والأزمات الاقتصادية. ولقد صدق الدكتور مصطفى رمضاني حينما قال عن تجربة موريتانيا في المجال المسرحي:" على الرغم من أقطار المغرب العربي قد عرفت فن المسرح مع بداية هذا القرن(يقصد القرن العشرين) ، في فترات متقاربة جدا، باستثناء موريتانيا، فإن حالة المسرح فيها اليوم تختلف من بلد لآخر، استجابة لخصوصية كل مجتمع ومشاغله الملحة....المسرح في ليبيا- على سبيل المثال- نما يتخبط بعد مرحلة الاندهاش والتعثر. وفي الجزائر يعيش حالة تكرار النموذج الواحد، مع استثناءات قليلة جدا. وعلى العكس من ذلك، نلمس تشابها واضحا بين المسرح في كل من تونس والمغرب، إذ يوجد فيهما الحداثة والتأصيل، انطلاقا من مبدإ التجريب المتطور. أما موريطانيا، فإن المسرح فيها يكاد يكون منعدما، نظرا للنزعة البدوية الغالبة على هذا المجتمع- والمسرح مدني كما نعلم- وللمشاكل المتعددة التي مازال هذا المجتمع يتخبط فيها، مما جعل الفن عامة من مشاغله الهامشية."
وهكذا، يتبين لنا بأن المسرح الموريتاني لم يفرض نفسه مؤسساتيا وثقافيا وإداريا وتنظيميا واجتماعيا، وذلك بسبب الأزمات التي تتخبط فيها الدولة الموريتانية على جميع المستويات والأصعدة، بما فيها المناحي: السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية، والثقافية، والإدارية، والعسكرية، ناهيك عن كون أن الفعل المسرحي والثقافي فعل ثانوي وهامشي بالنسبة للدولة. كما أن الفرجة المسرحية لم تصبح فرجة عالمة واعية محترفة ، بل مازالت فرجة ساذجة فطرية مرتبطة بالحفلات والأعراس وفضاء الخيمة والصحراء، ولم تنتقل بعد بشكل ما إلى القاعة الأرسطية بشكل يحقق التراكم والتواجد وفعل التأسيس والاعتراف والتجريب والتأصيل، وخلق تقليد فني وجمالي.
ومن جهة أخرى، حينما نريد الحديث عن المسرح الموريتاني بأي حال من الأحوال لتقويمه وتحقيبه ومعرفة خصوصياته وقضاياه وظواهره الموضوعية والفنية والجمالية، فإنه لم يتجاوز مرحلة النص بعد، وحتى إذا تجاوزها بشكل من الأشكال ، فإنه مايزال يعيش على إيقاع الاستنبات والتجنيس والتغريب، ومايزال كذلك يقدم عروضه وفرجاته فوق الخشبات الركحية المغلقة المهترئة في عمومها، والتي تحيلنا على المسرح الأرسطي بقواعده المحددة، وثقافته المستلبة، ونصوصه المعروفة، وريبرتواره الجاهز،ولم ينفتح بعد على فضاءات ركحية تجريبية جديدة، أو يقوم بتثوير السينوغرافيا السائدة، إذا كان الكل يعلم بأن المسرح الموريتاني لم يدخل بعد بشكل فني وجمالي المرحلة الكلاسيكية من المسرح العالمي، ولم يرو غليله من ذلك بعد. ومن ثم نسجل في الأخير، بأن المسرح الموريتاني يشكل بكل صراحة وموضوعية نقطة ضعف داخل خريطة المسرح المغاربي، و لم يستو بعد فنيا وجماليا.
د.جميل حمداوي