Logo
تابعونا على

مقومات وأبعاد الثقافة الموريتانية

ظل الموريتانيون قديمًا وحديثًا أثناء احتكاكهم بأشقائهم العرب يواجهون سلسلة من الأسئلة حول دور موريتانيا الحضاري والثقافي، وظلت إجاباتهم جزئية مقتضبة، حتى جاءت أولى المحاولات الجادة للإجابة عن هذه الأسئلة على يد أحمد الأمين الشنقيطي في مؤلفه المشهور «الوسيط في تراجم أدباء شنقيط», وقد صدر هذا المؤلف في بداية القرن الماضي في القاهرة، لكنه كان كتابًا في الأدب والشعر أكثر من غيرهما من المجالات الأخرى، ولم تظهر محاولات أخرى إلا في بداية الستينيات عندما استقلت موريتانيا وظهرت كقطر عربي متميز، فصدرت كتب سياسية وثقافية تدعم هذه الرؤية أو تنفيها، وكانت هذه الكتب في معظمها بأقلام كتاب غير موريتانيين, مثل يوسف مقلد, ويونس بحري وغيرهما.

شاركت المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في الرد على تلك الأسئلة من خلال إصدارها كتابين: أحدهما كان دراسة مسحية شاملة عن العناوين التي كتبت عن موريتانيا، وثانيهما كان مؤلفًا عن التاريخ الثقافي الموريتاني وجاء تحت عنوان: بلاد شنقيط: المنارة والرباط للكاتب الموريتاني الخليل النحوي.

والحقيقة أن موريتانيا تمتلك تاريخًا وحضارة عريقة تعود إلى عصور ما قبل التاريخ؛ فقد وجدت آثار في مناطق متعددة تعود إلى عصور قديمة، مثل تلك التي في منطقة لزرك قرب الزويرات على مشارف الحمامى، وكذلك منطقة آمقطير التي توجد فيها آثار لأقدام بشرية وحيوانية تجمدت على شكل صخور، وهي آثار تعود إلى العصر الحجري القديم، وهناك دلالات على نشاطات الإنسان الموريتاني خلال العصر الحجرى الحديث مثل ممارسته للقنص والصيد واستخدامه أدوات مثل القوس والخطاف والسنارة والشبكة وغيرها، فضلاً عن ممارسته للنشاط الرعوي، حيث انتشرت الأبقار وزاد عددها وكان مصدرها إفريقيا الشمالية.

وخلال الفترة ما بين 850 – 550ق.م وصلت إلى موريتانيا مجموعات بشرية من الشمال، وكانت البلاد وقتها تمر بفترة جفاف أرغمت بعض ساكنيها على الهجرة إلى الجنوب بحثًا عن مناطق صالحة للزراعة، وقد استخدم الموريتانيون في تحركاتهم العربات ذات العجلتين، وذات الأربع، وكانت تجرها الخيول غالبًا والثيران أحيانًا، وترك مستخدمو هذه العربات رسومات تدل على ذلك في مناطق آدرار والحوض وجبال أفلة وكتلة أركيز الصخرية.

وقد سكن أرض موريتانيا من بداية العصر المسيحي حتى دخول الإسلام جماعات أطلق عليهم بعض الكتاب الرومان اسم «لوتوفاج» وجماعات أخرى تسمى «الفاروس» التي كانت تجوب الصحراء مستعينة أثناء عبورها إياها بقرب من الماء تربطها تحت بطون الخيول، بالإضافة إلى «الجيتول» والنازامونيون و الإثيوبيون الذين كانوا يعمرون الصحراء خلال العصر الوسيط. ويشير الكتاب اللاتينيون إلى أن ظروف البلاد الطبيعية في ذلك العصر لم تكن تختلف كثيراً مما هي عليه في العصر الحديث، فهي بحسب أولئك الكتاب «بلاد الرمال» والبلاد التي لا ماء فيها، كما يبدو أن معظم سكانها كانوا يعتمدون التنقل والترحال أسلوبًا للحياة، إذ لم تكن الظروف المناخية تساعدهم على الاستقرار والتقري.

وبالإضافة إلى هذه الجذور الحضارية الضاربة في عمق التاريخ فإن موريتانيا تمتلك تاريخًا عربيًا وإسلاميًا عظيمًا يضفي عليها من الخصوصية الثقافية ما يميزها عن غيرها ويدعو أبناءها إلى الفخر بأسلافهم واستلهام فكرهم وعلمهم والحفاظ على تراثهم وأمجادهم.

وإذا كانت الخصوصية الثقافية أمرًا طبيعيًا لكل أمة فإن تفسيرات المفكرين قد اختلفت حول الدعائم التي يمكن أن تبني عليها كل أمة خصوصيتها، فرأى الألمان أن اللغة والجنس هما أساس الخصوصية الثقافية، فيكفي عندهم أن تتكلم الجماعة لغة واحدة، وتنتسب لدم واحد لتستطيع تكوين أمة لها تميزها وثقافتها. أما الفرنسيون فيرون أن الإرادة المشتركة والمصلحة السياسية هما الأساس، بينما يرى البريطانيون أن الدولة – كنظام سياسي – هي وعاء التفرد والذاتية.

وكما اختلف المفكرون في الدعائم التي تقوم عليها الخصوصية الثقافية فقد اختلفوا أيضًا في مقومات وأبعاد الثقافة لتشمل أساليب الإدارة وآلياتها ونمط التفكير وآداب السلوك والمعتقدات أو منظومة الأخلاق والقيم التي تحكم الجماعة واللغة ونمط العيش بما يتضمنه من مسكن ومأكل ومشرب ومن علاقات وأنظمة سلوك تؤسس التواصل بين الفرد والفرد، وبين الفرد والجماعة , وبين الفرد والطبيعة وبينه وبين الوجود.

وفيما يلي نتناول عرضًا لصورة مجملة عن الثقافة الموريتانية فنعرض المقومات التي تقوم عليها هذه الثقافة وهى الإسلام واللغة العربية والتراث، ثم نتناول الأبعاد المختلفة للثقافة الموريتانية والتي تشمل بعد القبيلة والبعد الوطني والبعد العربي الإسلامي.

الإسلام

الإسلام هو الدين الوحيد السائد في موريتانيا، حيث يعتنقه الشعب الموريتاني كله، والإسلام كأحد مقومات الثقافة الموريتانية ليس فقط نسقًا من المعتقدات والشعائر، وإنما هو أيضًا أسلوب للحياة، فالدين يصبغ الحياة الاجتماعية في موريتانيا بصبغة متميزة تتجاوز كل الاختلافات العرقية وتفرض عليهم نسقًا من القيم وأنماط السلوك والأساليب والمعاملات.

ويحاول الفقهاء المجددون من علماء موريتانيا تطوير الفكر الفقهي ليحقق المواءمة لمستحدثات العصر ويقدم حلولاً شرعية اجتهادية مبنية على أسس علمية وأصول فقهية لكثير من المعاملات القائمة في المجتمع. وقد كان للفقهاء في تنزيل الأحكام على الوقائع المستجدة في عصرهم والعادات الخاصة بمجتمعهم أسلوب مرن يستهدف حل الإشكاليات الفقهية من دون تفريط يمس الأمانة العلمية أو إفراط يزعزع التقاليد والأعراف المحلية؛ يقول محمد المختار ولد أباه: «كان الفقيه - بمعنى من المعاني قيمًا على مجتمعه، فهو يعارض المخالفات التي يرتكبها الأفراد ويضرب على أيديهم ما أمكن، ويغلظ في القول على الحكام، لكنه في الوقت نفسه يدافع عن الشرعية القائمة، ويعارض الثورة على الحكام.

ولعل لهذه الاعتبارات الاجتماعية والسياسية علاقة بهيمنة الخطاب الفقهي في المجتمع الموريتاني على غيره من الخطابات الثقافية التي أصبحت لها وظائف ثانوية، جعلت منها مجرد وسائط لتحصيل العلوم الفقهية؛ كما هي الحال مع علوم اللغة والحساب وغيرها، وقد تكون هذه الاعتبارات أيضًا وراء ارتفاع منزلة الفقهاء الاجتماعية وتبرك الناس بهم، بل تحول قبورهم إلى مزارات مشهودة.

ويسود في موريتانيا المذهب المالكي، والمعتبر من المالكية هو ما اشتهر عن ابن القاسم العتقي حتى لو خالف ما عند مالك في الموطأ، وقد حلت مختصرات الفروع محل أمهاتها حتى أصبح المرجع النهائي هو الأحكام الواردة في مختصر خليل بن إسحاق وشروحه وحواشيه، حيث اشتهر تمثل الفقهاء الشناقطة بعبارة الشمس اللقاني: «نحن قوم خليليون فإن ضل ضللنا»!Retour ligne automatique
Retour ligne automatique
اللغة العربية

تعتبر اللهجة الحسانية المنطوقة في موريتانيا من أكثر اللهجات العربية قربًا من الفصحى، إضافة إلى أن المجتمع الموريتاني القبلي - الذي شهد نهضة ثقافية متميزة - يعتبر في نظر العارف به مجتمعًا عالمًا، حيث يسيطر معظم الموريتانيين على ناصية اللغة العربية وآدابها.

ويدلل الدكتور عبد العزيز بن عبدالله السنبل، نائب المدير العام للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، على حذق الموريتانيين اللغوي فيقول: «إنك قد تدهش لو مررت على راعٍ لإبل في صحراء موريتانيا الواسعة وهو يحدو لإبله بشعر امرئ القيس وعنترة والأعشى، بل لما تحدث هذا الراعي تجده ملمًا بالقرآن الكريم والحديث الشريف، ويحفظ الأنظام الفقهية واللغوية كنظم ابن عاشر في الفقه، والأجرومية في اللغة».

ويقف وراء انتشار هذا المستوى الثقافي الرفيع بين الموريتانيين عاملان هما: عامل الأنظام وعامل الحفظ، فقد رسخ الموريتانيون في نهضتهم الثقافية تقليد نظم المتون، وذلك من أجل تسهيل حفظها، كما اعتنوا بحفظها عن ظهر قلب، وقد تميز الموريتانيون في رحلاتهم إلى المشرق بهذه الميزة؛ فعرفوا بأنهم علماء حفظة، ولذا قلما يشارك أحدهم في مناظرة علمية إلا وتفوق فيها.

يقول المفتش الفرنسي العام - أيام الاستعمار - «جاك بيرى»: «لا يوجد أي مجتمع بدوي بلغ مبلغ البيضان الشناقطة في العلم بالعقيدة والتاريخ والأدب والفقه وعلوم اللغة». والواقع أن شهادته هذه تعبر بكل دقة عن المستوى الذي بلغه هؤلاء القوم في التمكن من الثقافة العربية الإسلامية في جميع مكوناتها مقارنة بغيرهم من الشعوب وخاصة البدوية منها، مما جعلهم على قدر يسمح بمقارنتهم بعلماء الحواضر العربية الكبرى في فاس وتونس والقاهرة والحجاز والعراق والأردن والسودان حتى تركيا. فلقد كانت رحلات الأعلام الشناقطة إلى الحج رحلات علمية تقتضي من أصحابها المرور بأغلب الحواضر الإسلامية فتكون لهم لقاءات بأعلامها مما خلد لهم ذكرًا رفيعًا في أغلبها.

التـــراث

تكونت المعرفة العلمية بالثقافة العربية الإسلامية من خلال تركة معرفية تراكمية ترسخت لديهم تالدًا عن تالد لمدة قرون عديدة، ولقد كانت انطلاقة الشرارة الأولى للمعارف الإسلامية في هذا الجزء النائي من المغرب الإسلامي أيام أن أقيم أول رباط تأسيس للدولة المرابطية، هذا الرباط الذي أقيم في جزيرة في المحيط الأطلسي قرب شواطئ نواكشوط العاصمة الموريتانية الحالية، مع نهاية النصف الأول من القرن الخامس الهجري وقد أسس هذا الرباط على أيدي رجال من قبائل بربرية تشكل السكان الأصليين لموريتانيا، وهذه القبائل هي: صنهاجة، ولمتون، ومسوفة، وكدالة.

وتزخر موريتانيا بآلاف المخطوطات التي استنسخها أو ألفها موريتانيون، وقد اشتهر علماؤها المعروفون بالشناقطة بسعة باعهم في العلوم الشرعية وفي اللغة والنحو والسيرة. كما شرح الموريتانيون آثارًا عربية خالدة كثيرة كأشعار مشاهير الشعر الجاهلي، والمراجع الأساسية في السيرة النبوية، والمعاجم، ومجاميع الأحاديث.

كما يزخر التراث الثقافي الموريتاني بأجناس أدبية فصيحة متنوعة، وإن كان الكثير منها لا يزال مغمورًا، لم يحقق ولم ينشر بعد، ومن تلك الأجناس:

- المقامات، وتعالج في أغلبها قضايا اجتماعية وثقافية وفكاهية مثل: ذم البطالة والجهل، والحث على العمل والتعلم، ومن أشهر كتابها: محنص بابه بن إعبيد الديماني (ت: 1231هـ) وعبدالله العتيق اليعقوبي (ت: 1342هـ).
- الرحلات، ومن أشهرها رحلة «ابن أطويراجن» (ت: 1265هـ) ورحلة البشير بن امباركي اليدمسي (ت: 1354هـ)، ورحلة محمد فال بن باب العلوي (ت: 1349هـ).
- الكتب التاريخية، وتشكل لونًا من ألوان النثر الفني، وتتميز بتنوع مواضيعها، والاستطراد فيها, وتتخذ طابعًا قصصيًا سرديًا، ومن أكثرها رواجًا: كتاب «شيم الزوايا لمحمد اليدالي الديماني (ت: 1166هـ)، وكتاب «كرامات أولياء تشمشه» لوالد بن خالنا (ت: 1212هـ)، وكتاب «الدر الخالد في مناقب الوالدة والوالد» لسيد محمد بن الشيخ سيد المختار الكنتي (ت: 1241هـ).

ولا يقتصر التراث الأدبي الموريتاني على ما سبق، فهناك الأدعية والصلوات والابتهالات المسجوعة، كما أن هناك نوعًا آخر معروف وهو أدب المراسلات والفتاوى الفقهية، ويكثر فيه تضمين الأشعار والاقتباس من القرآن الكريم.Retour ligne automatique
أما الشعر فإنه يأتي في مقدمة الأنواع الأدبية، وبه اشتهرت البلاد، فقيل إنها بلد المليون شاعر حين كان عدد سكانها مليون نسمة.

وبعد الحديث عن مقومات الثقافة الموريتانية نتناول فيما يلي أبعاد هذه الثقافة التي تشمل بعد القبيلة والبعد الوطني والبعد العربي الإسلامي :

بعد القبيلة

يعد الانتماء القبلي هو الانتماء الأقوى لدى الفرد الموريتاني وقد عكس الأدب حب الفرد وارتباطه الحميم بدائرته الأولى، وهي القبيلة، فتغنى بالآبار، وشدة تعلقه بديار الحبيبة، ومراتع الصبا، وكان للشعر الشعبي والفصيح دور كبير في تخليد الأماكن والتغني بما آلت إليه من تحولات وانطماس معالم.Retour ligne automatique
وينقسم المجتمع الموريتاني منذ القديم إلى مجموعات قبلية عديدة، ظلت طيلة تاريخها الوسيط وجل الحديث محتكمة إلى العرف القبلي ذي السمة الإسلامية، في ظل غياب كامل من السلطة المركزية وعدم الخضوع أو التبعية الفعلية لسلطان أية دولة من الدول المجاورة شمالاً أو جنوبًا.

وتتوزع هذه المجموعات وظيفيًا إلى قبائل ذات شوكة تحتكر السلطة، وأخرى قيمة على العلم وتقاليده تحتكر الوظيفة الدينية، ثم قبائل أخرى وظيفتها اقتصادية تنموية، وفي كنف هذه المجموعات الثلاث تعيش فئات وفية تابعة تؤدي وظائف وأعمال محددة.

وتتزعم هذه المجموعات فئتان هما: فئة بني حسان، وفئة الزوايا، حيث يناط بنو حسان بحماية الأراضي وحمل السلاح وتقلد المناصب السياسية، ويقوم أفرادهم على نظام عسكري يأتي الأمير على رأسه.أما الزوايا فهم سدنة العلم وأصحاب المعارف والسلطة الدينية، وليس لهم أمراء محددون وإنما يتم الرجوع في الأمر دومًا إلى القاضي أو شيخ القبيلة.

وقد أزكى تنوع القبائل والعرقيات عوامل النهضة الثقافية في موريتانيا فأمام تحكم القبائل العربية في البلاد سياسيًا وثقافيًا بعد هجرات قبائل بني حسان العربية مع نهاية القرن السابع الهجري، لم يجد السكان الأصليون من البربر بدًا من تمثل الثقافة العربية بكل مكوناتها فحملوا لواءها الديني والمعرفي كنوع من التعويض عن فقدانهم للنفوذ السياسي الذي اختص به العرب، فكانت القبائل ذات الأصول البربرية التي عرفت فيما بعد باسم قبائل الزاويا هي التي تحمل لواء الثقافة؛ فاشتهر منهم أعلام كبار بالطريقة نفسها التي عرفت في المشرق في القرون الأولى لقيام الدولة الإسلامية، وذلك عندما تصدر الموالي المحافل الثقافية واختص العرب بالسياسة والفروسية وكأن التاريخ يعيد نفسه.

والواقع أن العرب والبربر قد اختلطوا في مجال الأنساب, وساعد عامل عدم الاستقرار والنزوح الدائم على طول وعرض الأراضي الموريتانية على ذوبان القبائل العربية والبربرية بعضها في بعض، الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان الجزم بالأصول الفعلية لأي قبيلة، فهم متشابهون في الملامح ويتكلمون اللهجة الحسانية نفسها دون وجود لكنة أو مميزات صوتية، فقد انصهر العرب والبربر في موريتانيا بدرجة لم يعرف لها مثيل في باقي البلدان المغربية الأخرى.

وتمتلك القبائل الموريتانية كثيرًا من الخصائص الثقافية التي تميزها عن غيرها، مثل حب العلم والاشتغال به وتوارثه والاشتهار به؛ ومن ذلك شهرة القبائل الجنكية، فيقال: «العلم جنكي» ومن العادات القبلية المشهورة، التباري في حفظ الكتب والمتون، فالموريتانيون لا يعتدون من العلم إلا بما يحفظ الفرد في قلبه ومن الأمثلة الشعبية في ذلك قولهم: «القراية في الراس ماه في فاس ولا مكناس» أي أن العلم المعتبر هو ما في حفظك وليس في كثرة الذهاب إلى المدن الحضارية ومؤسسات التعليم فيها.

ومن نوادرهم في الحفظ ما ورد في بعض تراجم علماء شنقيط مثل ما ذكر في ترجمة العلامة عبدالله بن عتيق اليعقوبي (ت: 1339هـ) من أنه كان يحفظ لسان العرب لابن منظور كاملاً، وما روي عن الشيخ سيد المختار بن الشيخ سيد محمد بن أحمد بن سليمان (ت: 1397هـ) أنه كان يحفظ عن ظهر قلب بعضًا من أمهات الكتب مثل: فتح الباري، والإتقان في علوم القرآن، إلى جانب المتون والكتب التي كانت تدرس في «المحضرة»، كما أن بعض العلماء كان يحفظ إلى جانب الكتب التي تخصص فيها كتبًا أخرى على سبيل زيادة الاطلاع، فقد روي أن أحمد الولي بن أبي بكر قاضي «ولاته» وإمامها كان يحفظ مقامات الحريري وهي ليست من فنون القضاء ولا الفقه، كما حفظها الشيخ محمد الأمين الشنقيطي صاحب تفسير أضواء البيان.

وروي أن الغلام في قبيلة «مدلش» كان يحفظ المدونة في فقه الإمام مالك قبل بلوغه، وأنه كانت توجد في قبيلة «جكانت» ثلاثمئة جارية يحفظن الموطأ للإمام مالك، فضلاً عن الرجال. ومن نوادر النساء في الحفظ أيضًا ما حدث به العلامة محمد سالم بن عبدالودود من أن أمه مريم بنت اللاعمة كانت تحفظ القاموس.

وقد اعتمد الموريتانيون على النظم لتسهيل الحفظ والتناقل، واستغلوا في ذلك براعتهم في اللغة وموهبتهم في الحفظ، كما تعد الرواية الشفوية إحدى الأدوات الثقافية المهمة التي أدت المرأة الموريتانية فيها دورًا كبيرًا، ولذلك فقد أنجز المعهد الموريتاني للبحث العلمي برنامجًا لجمع المادة المروية الغنية بمحتواها الثقافي والتربوي والأنثربولوجي، وتوثيقها وتدوينها خشية ضياعها نتيجة التحول السريع الذي يشهده المجتمع الموريتاني وهرم الأشخاص الذين يحملون هذه المادة مودتهم .Retour ligne automatique
وللقبائل الموريتانية كثير من العادات والتقاليد التي ارتبطت بخيرات الطبيعة المحيطة، ومنها تفضيلهم للحوم الإبل، وألبان النوق التي يعدونها المصدر الأساسي للغذاء، كما تعتمد عليه الفتيات المقبلات على الزواج في عملية تجميلية تسمى «التبلاج» فتشرب الفتاة المقبلة على الزواج اثني عشر لترًا من حليب النوق يوميًا طلبًا لامتلاء جسدها لمدة تتراوح بين عام وعامين، حيث تعد السمنة دليل رقي اجتماعي في موريتانيا خاصة بين النساء؛ لذلك تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن 80% من النساء في موريتانيا يعانين السمنة، وأن نحو 38% منهن يتم تسمينهن قسرًا.

البعد القومي

أطلق اسم موريتانيا الحالية من طرف المستعمر الفرنسي على الأرض الممتدة من حدود المملكة المغربية والجزائر شمالاً، وإلى نهر السنغال جنوبًا، ومن المحيط الأطلسي غربًا إلى جمهورية مالي شرقًا، وقد كان إطلاق اسم موريتانيا - والذي عرف تاريخيًا بأنه اسم لمملكة رومانية حكمت المناطق الجنوبية الغربية من الجزائر والمغرب الحاليين، وجزءًا من شمال الأراضي الموريتانية الحالية - على بلاد شنقيط بمنزلة حسم للجدل حول أي الأسماء التي عرفت بها هذه البلاد أحق بأن يطلق عليها.

فقد عرفت موريتانيا الحالية بأسماء متعددة أطلقها عليها الرحالة الذين زاروها خلال القرون الأخيرة، ومن أبرز من زارها الرحالة المغربي «ابن بطوطة» الذى حل بها في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي وغيره كثيرون، وكان الشيخ محمد المامي أشهر علمائها قد سماها المنكب البرزخي نظرًا لموقعها الجغرافي، حيث يشكل ذلك الموقع زاوية هندسية بين ملتقى نهر صنهاجة – المعروف اليوم بالنهر السنغالي – والمحيط الأطلسي.

وبالإضافة إلى الاسم الذي أطلقه عليها الشيخ محمد المامي - رحمه الله – عرفت موريتانيا بإمبراطورية غانا وقد رافقها هذا الاسم لما كانت البلاد تشكل إمبراطورية فعلية تعتبر من أقدم الممالك التي شهدها غرب إفريقيا، حيث بسطت نفوذها السياسي على أجزاء واسعة من الدول الإفريقية المجاورة ومناطق كبيرة من بلاد شنقيط وتحديدًا في الأجزاء الجنوبية الشرقية منها، وقد تكونت هذه الإمبراطورية من قبائل السود والملثمين، والملثمين لقب يشمل قبائل صنهاجة الذين دخلوا البلاد في أواسط القرن الثاني الهجري ومن بين الأسماء التي اشتهرت بها موريتانيا أيضًا: بلاد التكرور، وصحراء المنكب، وبلاد شنقيط ، وبلاد المغافرة، والبلاد السائبة، وموريتانيا الملثمين، وأرض المليون شاعر، تلك هي الأسماء الأكثر شهرة لهذا البلد.

وقد ورث الموريتانيون عن الاستعمار الفرنسي الذي احتل البلاد من 1902 حتى 1960 بنية دولة كان الفرنسيون يديرونها طيلة فترة الاستعمار من السنغال المجاورة، حيث كانت داكار عاصمة إفريقيا الغربية الفرنسية كلها، وكان الاحتلال الفرنسي قد قدم مشروعًا لإنشاء دولة البياظين Pays des Maures كان الغرض منه هو إقامة منطقة عازلة تفصل الفضاء العربي عن امتداده الحضاري (إفريقيا المسلمة) وبالتالي إيقاف المد الثقافي الديني الذي اضطلع به الدعاة والعلماء الشناقطة منذ قيام دولة الصناهجة.

وتضم دولة موريتانيا خمس قوميات تأتي في مقدمتها القومية العربية التي تزيد نسبتها على 76٪ من مجموع السكان، بينما تتوزع نسبة 24٪ على القوميات الزنجية الأربع وهى: التوكلور والساراكولي، والوولف، والسونينكي.

ويعاني المجتمع الموريتاني وجود النظام الطبقي والتعصب القبلي اللذين دأب الرأي الرسمي على نفي وجودهما في البلاد ، إلا أن الواقع يثبت وجودهما وتأثيرها على تشكيل الحياة السياسية والاجتماعية في موريتانيا.

وعلى الرغم من استقرار الموريتانيين في المدن فإن البعض منهم ما زال لا يصرح بميلاد أولاده، ولا بوفاة من يموت من أسرته ولا يصرح كذلك بتغير عنوانه عندما يغير سكنه، ثم إن طريقة كتابة أسماء الموريتانيين والاتفاق على تسمية أب واحد يشمل الأسرة كلها أمر يفرض الكثير من التحديات التي تتطلبها الحياة الحديثة.

وقد ساعد التنوع الطبقي على انتشار الوعي الثقافي، حيث أصبحت الفئات الأقل مرتبة تسعى لتعويض انخفاض مكانتها الاجتماعية من خلال المراتب العلمية والتعليمية، وقد أدى ذلك إلى إثراء الساحة الثقافية، وإن ظلت وسائل التثقيف الرسمية محدودة على مستوى البلاد.

وقد افتتحت مصر أول مكتبة عمومية في موريتانيا في عام 1965م، وكان لهذه المكتبة دور فعال في إرفاد الساحة الثقافية والأدبية، كما ظلت «المحضرة» المؤسسة التعليمية والتثقيفية الرئيسية إلى جانب المسجد؛ حيث كان الجامع المؤسسة العلمية الأساسية في الحواضر الساحلية غير أن تحول مركز الثقل الاقتصادي والثقافي إلى المناطق الصحراوية، حيث القبائل الرحل قد استدعى ابتكار مؤسسات علمية تلائم الوضع الجديد.

وهكذا ظهرت مؤسسة «المحضرة» التي ما زالت تثير اهتمام الباحثين. ولعل كتاب الخليل النحوي: بلاد شنقيط المنارة والرباط هو أهم ما ألف حتى الآن حول هذه «الجامعات البدوية المتنقلة» وقد استعرض شهادات لباحثين موريتانيين وأجانب، أجمعت كلها على الإشادة بهذه المؤسسة الفريدة من نوعها في العالم الإسلامي، وربما في العالم قاطبة وقد أعاد النحوي عوامل نشأة هذه المؤسسة إلى تسعة عوامل هي:

- كون الإسلام دين العلم.
- عناية الشناقطة بالعلم.
- تجارة الصحراء والبحار.
- الحروب القبلية.
- الهجرة إلى البلاد.
- الرحلات الدينية والعلمية.
- البداوة.
- الطرق الصوفية.
- المراسلات.

وقد تكون هذه العوامل كلها ساهمت بنصيب في نشأة «المحضرة» وتطورها، لكن هذه العوامل يشترك فيه الموريتانيون مع غيرهم، وما هو لصيق منها بالمجتمع الموريتاني دون غيره (مثل البداوة والحروب القبلية) يظهر أنه أقرب إلى العراقيل منه إلى العوامل المشجعة. ولذلك فإن ثمة تساؤلًا حول كيفية انتشار الثقافة تعلمًا وتعليمًا وتأليفًا في مجتمع من البدو الرحل؟ أليس «العلم ربيب الحضارة»؟ كيف تنتشر الثقافة المكتوبة حيث لا توجد دولة بالمعنى المركزي للكلمة؟ هذه التساؤلات طرحت وكأنها تثير الإعجاب حول هذه النهضة, لكن أصحابها لم يقدموا إجابات واضحة عنها.

وقد انحسر دور المحضرة في الوقت الحالي بسبب كثرت الهجرات على المدن والإقبال على التمدرس النظامي نتيجة انحسار الفرص الاقتصادية التقليدية والبحث عن فرص عمل عصرية، كما أن القائمين على «المحضرة» لم يسعوا إلى جعلها أكثر فاعلية ومواءمة للعصر.

أما وسائل الإعلام فقد ظلت ضعيفة إلى فترة قريبة، فالجريدة الوحيدة التي استطاعت أن تستمر حتى الآن منذ إنشائها سنة 1975 هي جريدة الشعب، وهي جريدة يومية ناطقة باسم الجهاز الرسمي تصدر بعدديها العربي والفرنسي. أما عن الإذاعة والتليفزيون فبثهما محدود لا يتجاوز بضع ساعات يوميًا ولم يظهر التليفزيون بصفة منتظمة في موريتانيا قبل سنة 1984م.Retour ligne automatique
وتحاول الحكومة النهوض بالسينما الموريتانية من خلال تنظيم أيام تفكيرية حول هذا الغرض تتم فيها استضافة خبراء دوليين، وقد أكد مدير دار السينمائيين الموريتانيين أن دار السينمائيين بدأت مؤخرًا في تطوير صناعة السينما عن طريق خطة ثلاثية الأبعاد قوامها التكوين المهني، والبث السينمائي، وتنظيم لقاءات سينمائية.

وفي مجال الموسيقى والفنون الشعبية فقد طور مختلف مكونات الشعب الموريتاني من عرب وزنوج فنونًا موسيقية بينها من القواسم المشتركة ما يجعلها تبدو كالتوائم، خاصة من حيث المقامات والآلات، ومن أشهر الفنون الموسيقية ما يسمى بالهول البيظاني الذي يتميز بأنه فن «مقنن» بشكل دقيق. كما يوجد في موريتانيا آثار معمارية عالية الصياغة خاصة في المدن القديمة بآدار والحوض الشرقي وتكانت.

وقد عرف الشعر الموريتاني القصيدة الوطنية وتغنى الشعراء فيها بالوطن الذي هو الكنز الغالي وتركه الأجداد.

يقول الشاعر محمد بن إشدو:

يا موطنيRetour ligne automatique
يا أيها المليون والنيف الغنيRetour ligne automatique
يا مجد آبائي، وحفظ المجد غالي الثمنRetour ligne automatique
يا قوت عيالي، لباسي، مسكنيRetour ligne automatique
يا رمز آمالي، مصيري، موطنيRetour ligne automatique
لن تستكين لغاصب، لن تنحنيRetour ligne automatique
يفديك، يحميك الشباب، ولن يقصر أو يني.

البعد العربي الإسلامي

أدت موريتانيا دورًا بارزًا في إثراء الحضارة العربية الإسلامية بعد أن دخلها الإسلام مع فتح موسى بن نصير عام 708م، وأصبحت مركز إشعاع علمي وثقافي في تلك الفترة، كما كان لها دور كبير في توطيد أركان الدولة وخاصة في العهد الفاطمي.

وقد أدت حركة المرابطين دورًا مهمًا في نشر الثقافة العربية الإسلامية وتعميقها في بقاع الغرب الإسلامي وإفريقيا الغربية، كما ارتبط الدعاة الموريتانيون بعلاقات وطيدة مع معاصريهم من المشرق والمغرب العربيين.Retour ligne automatique
ولقد بلغ الإشعاع الثقافي الموريتاني أوجه في القرن الثالث عشر الهجري، حيث شهد أول نهضة علمية ما فتئت تثير افتتان مؤرخي الأدب والثقافة. وتبين لنا فهارس المخطوطات والمصنفات الموريتانية العربية ما أضافوه من إضافات جليلة إلى هذه المعارف, وقد تجاوز تأثير هذه النهضة حيز الصحراء الشنقيطية، إلى أعماق أفريقيا ومجاهلها، كما بلغ قلب المنطقة العربية من خلال من دعاهم الخليل النحوي (سفراء المحضرة).

وتجمع المصادر العربية والغربية على الدور الرئيسي الذي لعبه هؤلاء السفراء في تثبيت دعائم الثقافة العربية الإسلامية في إفريقيا السوداء، وكان للدولة والإمبراطوريات الدينية الإفريقية علاقة ولاء مباشر للمراكز العلمية والدينية الموريتانية، كما اشتهر «الشناقطة» في المشرق العربي بهذا الدور الريادي.

وتبرز شهادات طه حسين وأحمد حسن الزيات وغيرهما من أعلام النهضة المشرقية الدور البارز الذي أداه الأعلام الشناقطة في تجديد ينابيع الفكر العربي الحديث، ومن هؤلاء محمد محمود بن التلاميذ الشنقيطي، وأحمد بن الأمين، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي، ومحمد محمود التندغي، والشيخ محمد المامي بن زين وغيرهم ممن ترجم له الخليل النحوي بإفاضة ودقة في كتابه بلاد شنقيط: المنارة والرباط.

وعلى الرغم من تجذر انتماء موريتانيا العربي وعراقة هذا الانتماء إلا أن المشروع الاستعماري ما فتئ يعمل على طمس هويته هذه من خلال سياساته الثقافية وإعداد ترتيبات اندماجية إقليمية تخرج موريتانيا من الدائرة العربية الإسلامية، ولقد كانت الورقة الثقافية إحدى أبرز بؤر الصراع السياسي الداخلي بين المجموعات الموريتانية المختلفة، فقد ركز التيار القومي على المطالبة بانتهاج التعريب الشامل في مجالات الثقافة والإدارة، واستطاع أن يجعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية للبلاد، وكان ذلك في المؤتمر الذي عقده حزب الشعب الحاكم في مدينة العيون عام 1966م، وقد مهد هذا الأمر لإصلاحات تعليمية كان من أبرزها جعل تعليم اللغة العربية إلزاميًا في المدارس الحكومية.

وقد أدى هذا الإصلاح إلى أزمة داخلية عنيفة، ظهرت في تنظيم الأقليات الزنجية احتجاجات قوية تحولت إلى أحداث عنف دموية، راح ضحيتها بعض القتلى والجرحى من الجانبين العربي والزنجي. وعلى الرغم من هذه الأحداث إلا أن مشروع التعريب وتركيز الهوية العربية للبلاد قد قطع شوطًا كبيرًا بعد انضمام موريتانيا إلى الجامعة العربية في 1973م، حيث تم اعتماد سياسة الاستقلال الثقافي وتدعيم الأصالة العربية.

وتظهر في الوقت الحالي في موريتانيا ثقافتان: قديمة ومعاصرة, وهما على طرفي نقيض، حيث يسعى أنصار كل منهما إلى نبذ ما لدى الآخر بحجة تأصيل الهوية وإثبات الذات لدى دعاة التقليد، وبحجة ضرورة التغيير والأخذ عن الحضارة المتقدمة عند دعاة التجديد.

الزهراء محمد إبراهيم - عن مجلة المعرفة